العربية كلغة أقلية في إسرائيل من وجهة نظر مقارنة
نتائج بحث شامل يعرض السياسات اللغوية لدولتين ديمقراطيتين متصدعتين -الهند وإسرائيل- بحيث تقصي لغة الأقلية وتهمشها
أييلت هرئيل-شليف[1] | مجلة عدالة الإلكترونيّة، العدد 14، حزيران 2005
يعتبر تحديد اللغة الرسمية في الدول متعددة اللغات مهمّة معقدة، وعلى درجة قصوى من الأهمية، وللقرار حول السياسات اللغوية داخل المجتمعات المتصدّعة ، إسقاطات بعيدة الأمد على استقرار الدولة ومتانة الديمقراطية فيها، ذلك لأن الاختلافات الدينية والإثنية واللغوية تضع الكثير من التحديات أمام استقرار الديمقراطية. زد على ذلك أن القرار بخصوص اللغة الرسمية هو بمثابة الخطوة الأولى فقط، وتطبيق السياسة اللغوية لا يقلّ أهميّة عن القرار الرسمي بخصوصها. وتجد كل دولة فتية أنها ملزمة بتحديد اللغة التي ستشكل لغتها القومية الرسمية، بالإضافة إلى تحديد مكانة لغات الأقليّة (1991؛ Pool). تُعرّف اللغة بأنها رمز مركزي لهوية الدولة، وتَعمل كمؤسّسة ثقافية بالغة الأهمية (Laitin; 1999). من ناحية الدولة، تشكّل السيطرة على الحق في اللغة قوّة هامة وبالتالي قدرة على السيطرة (Kook; 2000). على ضوء ذلك، يجدر أن نفحص بدقة كيف تحدّد أنظمة المجتمعات المتصدعة -التي تتألف من مجموعات إثنية، وقومية ولغوية مختلفة- السياسة اللغوية، وكيف تُتَرجِم على أرض الواقع، السياسة الرسمية إلى سياسة جماهيرية.
سأستعرض في مقالتي هذه نتائج من بحث شامل يفحص كيف قررت دولتان ديمقراطيتان متصدعتان-الهند وإسرائيل- سياساتهما اللغوية، ويفحص كذلك الطريقة التي تطبقان بها السياسة المعلنة بخصوص لغتي أقلية مهمتين، الأوردو والعربية. وتبّين من البحث، أن الدولة تُقصي -في الحالتين- لغة الأقلية، وتضعها بمكانة ثانوية في الحيّز العام. إضافة إلى ذلك، وُجدت في الحالة الإسرائيلية فوارق جوهرية بين السياسة اللغوية الرسمية، وبين تطبيقها على أرض الواقع.
تَعترِفُ الأدبيات البحثية بان اللغة تشكل مركبا جوهرياً في الهوية الفردية والجماعية، وعاملاً يؤدي وظيفة حيويّة في جميع التفاعلات السياسية والثقافية (Veer; 1994, Van Der, Anderson; 1991, Apete; 1976). ويدّعي الباحث وويل كيمليكا، في هذا السياق، أنه وبكل ما يتعلّق بحقوق لغة الأقليّة، فإن منح الحقوق الفردية، ومنع التمييز، لا يكفيان للحفاظ على لغة الأقلية كـ"لغة حية". ويدعي أيضا أن الضغوطات الاقتصادية والثقافية وسواها، والتي تقع تحت وطأتها الأقلية، تتسبب في تآكل مكانة لغة الأقليّة وقد تؤدي بها إلى الانقراض. ويحصل ذلك في حال لم تتوفّر ضمانات جماعية كافية توفر بيئة لغوية واقية (Kymlicka; 1995).
تُعرّف الدول التي اختارت إرساء نظام ديمقراطي إجماعي، نفسها بأنها ثنائيّة اللغة أو متعدّدة اللغات. يتم التعامل مع الخلافات، في ظل نظام إجماعي، بواسطة سلطة نخبوية مشتركة لجميع القطاعات في المجتمع، ويعتمد هذا النظام على النسبية وليس على حكم الأغلبية. وبناء على ذلك، تمنح هذه الدول لغة الأقلية مكانة رسمية محترمة. وتُعتَبر كندا وسويسرا وبلجيكا من الدول المتصدِّعة التي نجحت في إرساء نظام ديمقراطي لأكثر من خمسين عاما، وعليه تقترب هذه الدول من النمط الإجماعي النموذجي. وبما أن هذه الدول اختارت نظاما يعتمد على المشاركة أكثر من اعتماده على سلطة الأغلبية، لذا فالمعضلات التي تواجهها في اختيار السياسة اللغوية الملائمة هي قليلة. من هنا، يصبح أكثر أهمية فحص السياسات اللغوية التي اختارتها دول في مجتمعات متصدعة، والتي أرست أنظمة ديمقراطية تشدد على مبدأ الأغلبية بالذات، وليس على المبدأ الإجماعي، في السياق الإثنو-قومي. ولهذا الغرض، يتوجب علينا تحليل تعامل دولتي الهند وإسرائيل مع لغات الأقلية.التصدعات القابلة للمقارنة في هاتين الحالتين الإختباريتين هي الشرخ الإثنو-ديني بين الهندوس والمسلمين في الهند، والشرخ الإثنو-قومي في إسرائيل بين اليهود والعرب-الفلسطينيين.
يُتوقع في دولة كالهند، المعرّفة كجمهورية علمانية،أن تكون سياستها اللغوية على درجة أكبر لبرالية تجاه أقلياتها الدينية، فتعريفها يُحتم تجاهل الاعتبارات الدينية عند اللجوء إلى تحديد اللغة الرسمية. لذا اخترت تحليل سياسة السلطات الهندية تجاه لغة الأوردو، وهي لغة أقلية، تمثّل بدرجة كبيرة لغة المسلمين في هذه الدولة[2]. في المقابل،أقيمت دولة إسرائيل كدولة إثنية، وأُسّسَت كدولة اليهود، لذا يمكن التوقع بأنها لن تتنازل كثيرا للأقليات، ولن تضع لغات أخرى، عدا العبرية، في قائمة لغاتها الرسمية. سأقوم بالتشديد على الفروقات الجوهرية وعلى أوجه الشبه المهمة بين الهند وإسرائيل في السياسات اللغوية تجاه لغات الأقلية. وسأبدأ بتحليل السياسة اللغوية في الهند، ومن ثم سأتطرق للسياسة اللغوية في إسرائيل، واختتم بفصل مقارن تلخيصي.
مكانة لغة الاوردو في الهند
الهند هي دولة متعددة اللغات، تعيش فيها مئات من لغات الأقلية، وتعاني من صراعات متعددة في المجال اللغوي[3]. وعلى الرغم من ذلك سأتمحور في هذه المقالة في تحليل سياسة المؤسسة الهندية تجاه لغة أقلية واحدة وهي لغة الأوردو. ترتبط لغة الأوردو بالمسلمين في الهند، وينطق بها 50% من المسلمين، وهي من اللغات الشائعة في الهند ( تندرج في المكان السادس من حيث الانتشار) (Census of India; 2001). وهنالك تأثير حاسم لتحديد اللغة القومية بكل ما يتعلق بالمحافظة على اللغات، من الناحية الرمزية ومن ناحية الموارد والميزانيات، والعمل المتوفر لناطقيها ولأطراف سياسية أخرى. وقبيل تقسيم الهند وباكستان نشبت نقاشات حادة في الجمعية التأسيسية حول مكانة الأوردو في الدولة الهندية المستقلة. واقتضى المخطط الأصلي للبنية اللغوية للدولة الهندية بأن تكون لغة الهندوستاني (وهي لغة شفوية تربط بين اللغتين الهندوسية والأوردو، ويمكن كتابتها بطريقتين : ديفانغاري وعربي-فارسي) واللغة الإنجليزية اللغتين القوميتين لدولة الهند المستقلة (Shiva Rao; 1968).
بعد المصادقة على تقسيم الهند وباكستان في العام 1947، شعر الكثير من الهندوس بضرورة "الانتقام من الأوردو". واقترح أعضاء الجمعية بناء على ذلك ،وقبل شهر من الاستقلال، شطب الأوردو من بند الدستور الذي يحدد اللغة الرسمية للاتحاد الهندي، الأمر الذي عارضه الأعضاء المسلمين بشدة (Constituent Assembly Debates (CAD); IX, 34, 1339-1458)، لكن الجمعية تمسكت، بأغلبية الأصوات، بالتشريع المقلّص- الهندوسية فقط. وتم تحديد الهندوسية بالخط الديفانغاري كلغة الهند الرسمية (CAD; IX, (34, 1486-1491; Schedule 343 (1)[4]. وامتنع أعضاء الجمعية التأسيسية عن استعمال مصطلح " اللغة القومية" بشكل صريح، واستبدلوه بمصطلح " اللغة الرسمية للإتحاد". لكن ما يعنيه هذا الأمر هو أن الهندوسيّة ستشكل، فعليا، لغة قومية لجميع الهنود، وستحظى اللغات المتبقية بمكانة متدنية. شكّل هذا القرار صفعة قوية للمسلمين، الذين توقعوا أن لا تتأثر الهند العلمانية بأحداث التقسيم وتحافظ على الأوردو- أغلى الرموز الإسلامية، كرمز قومي للهند.[5]
على أرض الواقع، الأوردو آخذة بالزوال في الهند، وتدريسها في مؤسسات التعليم العلمانية شبه معدوم، ويقتصر على "المدارس" الدينية والجامعات الإسلامية مثل جامعة "أليغار" والجامعة الإسلامية القومية. ويقول لطيفي (Latifi; 2001) ان هذه العملية أدت إلى اعتبار التعليم بلغة الأوردو ذو مكانة متدنية، وتَولّد الانطباع بأن من يتعلم بهذه اللغة، لم يقبل للدراسة ببرامج تعليم أخرى. وأجرى فاروقي ( Farouqui; 1994) بحثا شاملا حول مكانة لغة الأوردو في الهند وتوصل إلى نتيجة مفادها ان الاستثمارات المالية للمؤسسة السياسية الهندية في جهاز التعليم في اللغات الأخرى تفوق بكثير الميزانيات التي ترصد لتعليم الأوردو (Farouqui; 1994) [6].
على الرغم من ذلك، ومنذ مرحلة الاستقلال، حصل تزايد ملحوظ في كمية الصحف بالأوردو، وخصوصا في الفترة التي شهدت انتعاش القومية الهندوسية في نهاية الثمانينات، حيث ارتفع عدد المجلات والأسبوعيات والصحف اليومية بلغة الأوردو، والتي مكّنَت المسلمين من "تَفريغ الغضب" ( Hasan; 2001, 316-317). في العام 1991 فاق انتشار الصحف بالأوردو انتشارها في لغات الأقلية الأخرى، وحلّت هذه الصحف في المكان الثالث بعد الصحافة باللغتين الهندوسية والإنجليزية (Hasan; 2001). لكن توق المسلمين لقراءة الصحف بلغة الأوردو أدى إلى إقصائهم بصورة غير رسمية عن التيار المركزي في الهند. وتكتب صحف الأوردو بتوسع حول ما يدور في باكستان، وتقتبس تقارير تنشر هناك؛ الأمر الذي يساعد الهندوس في توجيه أصابع الاتهام للمسلمين بالانعزالية والانفصالية.[7]
ولتلخيص مكانة الأوردو، يمكن الإدعاء بان القرارات التي اتُّخذت في الجمعية التأسيسية، والتي ألغت مكانة الأوردو كلغة الاتحاد، وكلغة الطبقة البيروقراطية والإدارية، كانت كارثية، وأدت إلى تدهور مكانتها في الهند. منذ مطلع الثمانينات، تجري محاولات متقطعة لتحسين مكانة لغة الأوردو، لكن هذه المحاولات تجري -كل مرّة- بغرض استرضاء المسلمين والحصول على أصواتهم في الانتخابات الوشيكة. ولا تكفي هذه المحاولات كي تتطور الأوردو بشكل ملحوظ. كنا قد أكدنا سابقا أن اللغة تشكل احد المركبات المركزية للهوية القومية، ومن هنا تُؤكد نتائج البحث الحالي أن السلطة الهندية توضّح عدم وجود مكان مركزي للأوردو في الهوية القومية الهندية.
بسبب سياسة الحكومة الهندية، تقف اللغة السادسة في الهند من حيث الحجم، على حافة الانقراض بالمفهوم العلماني، وأصبحت تقتصر على المدارس الدينية. يكفل الدستور في البند 29(1) لكل قطاع في المجتمع، يمتلك لغة خاصة وكتابة خاصة و/أو ثقافة خاصة، بالمحافظة عليها وتنميتها. على أرض الواقع، يوفر هذا الوعد ضمانات محدودة لسلامة لغة الأوردو في الهند.
مكانة اللغة العربية في اسرائيل
المجتمع الإسرائيلي ليس معقدا كالمجتمع الهندي، لكن إسرائيل تشهد هي الأخرى انقسامات عرقية ودينية ولغوية وثقافية عميقة.ويحمل الشرخ اليهودي-العربي في إسرائيل في طياته صراعا على مكانة اللغات المركزية التي تميز هذا الشرخ، وهي العبرية والعربية، والذي يوازي على نحو ما الشرخ اللغوي في الهند بين الهنديّة والأوردو.
من المهم ان نستعرض في البداية، التشريعات القائمة في إسرائيل في هذا المجال. عمليا لم تقم إسرائيل بسن قانون، يوضح بشكل قاطع ما هي لغاتها الرسمية. يحدّدُ بند 82 لأمر المندوب السامي في فلسطين من العام 1922 وجود ثلاث لغات رسمية في فلسطين/إسرائيل وهي الانجليزية والعربية والعبرية، وما زال هذا المرسوم ساري المفعول الى يومنا هذا. التغيير الجوهري الأساسي لهذا البند حصل في العام 1948 عندما سن الكنيست الإسرائيلي بند 15 ب في مرسوم أنظمة السلطة والقضاء- 1948،الذي يلغي مكانة الانجليزية كلغة رسمية، ويبقي على اللغتين العبرية والعربية كلغتين رسميتين (Kretzmer; 1990, 165-166). وعلى عكس الهند، لم تلجأ إسرائيل إلى لغة المحتل الأجنبي لتوحيد مواطنيها، واختارت إلغاء المكانة الرسمية للغة الإنجليزية.
رفض الفلسطينيون قرار التقسيم الذي عرضته الأمم المتحدة، وأضاعوا بذلك فرصة الحصول على ما يمكن تسميته بـ"الخيار الباكستاني" (عملية فصل باكستان عن الهند في العام 1947). وتأسست دولة إسرائيل في خضم حرب شاملة ضد الدول العربية في 14 أيار 1948. ومن الغريب-في هذه الظروف- عدم تحديد اللغة العبرية كلغة رسمية وحيدة، كما كان يتوقع من تعريف إسرائيل كدولة الشعب اليهودي، ومن نظام الديمقراطية الإثنية. نكتشف، إذا، حقيقة مفاجئة للغاية، إذلم يتم الاكتفاء بضمان دولة إسرائيل لـ " حرية العبادة والضمير واللغة والثقافة" كما ورد في وثيقة الاستقلال، بل اختارت القيادة المهيمنة اليهودية في إسرائيل، التي أَمْلت قواعد اللعبة الأساسية عند إقامة الدولة، إلغاء مكانة اللغة الإنجليزية، وهي لغة المحتل الكولونيالي، وعدم إلغاء مكانة اللغة العربية، وهي لغة من تم اعتبارهم أعدائها، والذين استمروا في محاربتها، والإبقاء عليها كلغة رسمية في إسرائيل. ولم تلجأ القيادات العربية في إسرائيل للنضال من اجل الحق بلغة رسمية أخرى كما فعل زملائهم من الأقلية المسلمة في الهند، لان القيادة اليهودية قدمت لهم مرادهم دون أن يطلبوا ذلك.
نرى في هذا المجال أن القيادة اليهودية المسيطرة تصرفت بسخاء تجاه أقلياتها، أكثر من القيادة الهندوسية التي حكمت الهند عند الاستقلال.لكن، وبما أن حق "الرسمية" و"التمثيل" للغة العربية غير مطبق على أرض الواقع، لذا لا يتم التعبير عن الحق الجماعي ولا تُستنفذ الإمكانيات الكامنة لهذه المكانة (سبان 2000). في الواقع، تُشكّل العبرية اللغة الرسمية الوحيدة في كل المسائل والقضايا(Barzilai; 2003). في أيار 1948 وعندما جرت مناقشة مسألة اللغة في الدولة، وصيغة وثيقة الاستقلال، اعطى بن غوريون البند الانتدابي تفسيرا ضيقا. وبحسبه " لن يعارض أحد أن تكون..حرية اللغة، لكن...لغة الدولة هي اللغة العبرية. ولا يحرم هذا الأمر باقي السكان من استعمال لغتهم في كل مكان" (بن غوريون؛ مداولات مجلس الشعب، 14-5-48؛15).
حتى الآن لم تلق محاولات تحويل اللغة العبرية إلى اللغة الرسمية الوحيدة، نجاحا في الكنيست[8]. وعلى الرغم من ذلك، لم يضع القانون الإسرائيلي نظاما معياريا شاملا لثنائية اللغة، مما أدى إلى تدني مكانة اللغة العربية بشكل كبير مقابل اللغة العبرية (سبان؛2000).لكن من المهم أن نؤكد هنا أن أسبقية اللغة العبرية في اسرائيل لم تأت بقوة القانون أو بمرسوم حكومي كما حدد الدستور الهندي بخصوص اللغة الهندوسيّة، بل نتيجة السياسة الفعلية.
يعود عدم إلغاء المكانة الرسمية للغة العربية لدوافع براغماتية واعتبارات دولية ودبلوماسية. وبغض النظر عن هذه الدوافع ، لا تحظى اللغة العربية في إسرائيل بنفس مكانة اللغة العبرية، وتتدنى عنها في المكانة والموارد والفرص. في الحياة اليومية، العبرية هي اللغة المهيمنة في اسرائيل (سموحه؛1996،282).وعلى الرغم من مكانتها الدستورية المحترمة، لم تخلق السلطة الإسرائيلية بيئة لغوية تحمي اللغة العربية، ولم تحدد لها دفاعات جماعية كافية.[9]
أقوال الكنيست مليئة- في العقود الأخيرة- بمطالبات أعضاء كنيست عرب (ويهود) بتدعيم مكانة اللغة العربية في إسرائيل. وأثمرت التماسات للمحكمة العليا والمستويات القضائية المختلفة في التسعينات عن تقدم ما في مجال مكانة اللغة العربية. وتوفر المكانة القانونية الرسمية للغة العربية ثغرة دستورية لكل الإطراف المعنية بتطوير مكانة اللغة العربية في إسرائيل. وتماشيا مع ذلك، تعترف المحكمة العليا باستعمال اللغة العربية في إسرائيل، لكن ادعاءاتها ترتكز إلى مبدأ حرية التعبير، ولا تعتمد الاعتراف بالحق الجماعي باللغة.[10]
ويشكل "ملف مرعي"[11] أحد قرارات الحكم المهمة، التي وسعت من خلالها المحكمة القاعدة القانونية لكون العربية لغة رسمية.وتحدد في هذا القرار أن الالتزام في مسألة اللغة العربية لا يتلخص بمرسوم 82 لأمر المندوب السامي فقط، بل ينبع كذلك من قانون كرامة الإنسان وحريته-1992. لكننا نصادف هنا مرة أخرى، الظاهرة المتكررة بأن هذا التحديد لا يرتكز على حق جماعي للمجتمع الناطق بالعربية، بل على حريات الفرد. ويؤكد الجهاز القضائي على ضرورة منح حقوق للأفراد الذين يتكلمون هذه اللغة، لكون إسرائيل دولة يهودية وديمقراطية، وبهذا يعبر القضاة عن إخلاصهم للتفوق الرمزي للعبرية في دولة يملكها اليهود (Barzilai; 2003, 112-113)[12].
فعليا، ترتبط قدرة العرب في المحافظة على ثقافتهم، بدرجة كبيرة، بالمكانة الرسمية للغة العربية في إسرائيل، وبالحق في بناء مؤسسات ثقافية منفصلة وجهاز تعليمي رسمي منفصل، وبالقدرة على ذلك.[13]يتمتع العرب بمسرح عربي، وبصحافة عربية آخذة بالنمو والازدهار في السنوات الأخيرة (لنداو؛1993)، ويجري التعليم في جهاز التعليم العربي باللغة العربية ويتعلم التلاميذ كذلك اللغتين العبرية والإنجليزية. قدّم تقرير لجنة أور، بعد أحداث أكتوبر 2000، وصفا لحالة الجمهور العربي، ، وأشار إلى اعتراف هذا الجمهور بالتقدم الذي تم تحقيقه في مجال التعليم، لكن هذا الجمهور يعتقد أن برامج التعليم العربية لا تعكس بشكل كامل قيمه الاجتماعية، ويعتقد كذلك أن البرامج التعليمية في الوسطين العربي واليهودي توضع من قبل الأغلبية اليهودية المهيمنة حسب احتياجاتها السياسية(تقرير أور؛الباب الأول، الفقرة 62). وعلى الرغم من إدراك لجنة أور لهذا الوضع إلا أن تقريرها لم يترجم للغة العربية.[14]
تؤكد سياسة السلطات الإسرائيلية تجاه اللغة العربية- التي تحظى بشكل رسمي بمكانة مماثلة للغة العبرية- أن التعامل معها لا يجري باعتبارها إحدى لغات الدولة.وتعكس المعادلة المزدوجة التي تتبناها السلطات في إسرائيل بالنسبة للغة العربية، الطريقة التي تحدد فيها الدولة حدود الجماعة الإسرائيلية. من الناحية القانونية، توفر الدولة للغة الأقلية مكانة محترمة ومماثلة لمكانة اللغة العبرية، لكن على ارض الواقع لا تعمل السلطات بما فيه الكفاية، لتعزيزها وتوفير المكانة الممنوحة لها قانونيا. من الناحية القانونية المبدئية،تدعم المحكمة سياسة السلطات في تفضيل العبرية على العربية، وفي منح الحق بلغة معترف بها للأفراد وليس للجماعة، عندما يتعلق الأمر باللغة العربية.
مكانة لغات الأقلية من وجهة نظر مقارنة، تلخيص واستنتاجات
تُعتبر بعض القطاعات في المجتمعات المتصدعة التي بها تعددية لغوية، أو ازدواجية لغوية، غير مخلصة، إذا ما كانت تتحدّث لغة معادية، أو تملك ارتباطا معينا بدول الجوار المعادية. ويرجع ذلك لكون اللغة، كما ذكرنا سابقا، رمزا قوميا وإحدى أكثر المؤسسات الاجتماعية أهمية في الدولة. على ضوء ذلك، تقع على عاتق الدولة الديمقراطية في مجتمع متصدع، مهمة عسيرة، عند توجهها لتحديد سياساتها اللغوية، إذ يتوجب عليها الامتثال لمعايير ديمقراطية، وتحقيق الشرعية لجميع مواطنيها، والمحافظة في الوقت ذاته، على النظام الاجتماعي، والاستقرار، وبقاء السلطة.
ملفات متعلقة: