الحقوق الجماعية والمصالحة في بناء الدستور: الحالة الإسرائيلية
سيؤدي المساس بالبنية الثقافيّة إلى تآكل حريات الأفراد الذين ينتمون إليها، فالعلاقة متأصّلة بين حرية الفرد وسياقه الثقافي.
المحامي حسن جبّارين[1] | مجلة عدالة الإلكترونيّة، العدد 12، نيسان 2005
قامت بلدية تل أبيب بفرض غرامة مالية على السيد آلتشولر، وهو يهوديّ علمانيّ، من سكان تل أبيب في فترة الانتداب البريطاني، بعد أن قام بفتح مطعمه في يوم السبت، فتوجّه إلى المحكمة الانتدابية مطالبًا إلغاء أنظمة البلدية بهذا الخصوص. إثر خطوته هذه، وقف عدد من الشخصيات الجماهيرية في تل أبيب، ومعظمهم من العلمانيين، ضد السيد آلتشولر، مدّعين أنه يمس بالاستقلالية الذاتية لتل أبيب، وبالخصوصية القوميّة "للييشوف العبريّ"[2].
ردّ فعل كهذا يميّز السلوك السياسيّ للأقليات الدينية والقوميّة والثقافيّة التي تهتم بإبراز تميّزها، وبالمحافظة على خصوصيتها، كي يتم الاعتراف بحقوقها الجماعيّة. وبالفعل، وبهدف حماية حقوق أقليات كهذه، اعترفت ديمقراطيات عديدة بحقها في إدارة شؤونها الثقافيّة الداخلية، دون التدخل الخارجيّ للمحاكم، حتى عندما مس حكمها الذاتيّ بحقوق الأفراد.
في العام 1992، أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية قرار حكم (كاستينباوم)، الذي تحدّد من خلاله قرار هام بشأن دستورية الحق بالاستقلال الشخصي للفرد من واجبات تبتغي المحافظة على التماسك الديني والقوميّ لليهود الإسرائيليين. وألزمت المحكمة العليا "حفرات كاديشا" (المؤسّسة اليهوديّة الدينية التي تعنى بشؤون الدفن الشرعي) أن تستجيب لطلب عائلة المتوفى بمواصلة تدوين شاهد قبره باللغة اللاتينية، بدل الامتياز الحصري الذي تتمتع به اللغة العبريّة ، وأن يُدوَّنَ تاريخ الوفاة حسب التقويم الميلادي بدل حصرية التقويم العبريّ. أثار قرار الحكم هذا نقاشًا مثيرًا في صفوف الأكاديميين الإسرائيليين، وَطُرح ادّعاء مُفاده أن هذا القرار يشكّل نقطة انتقال من عصر النـزعة الجماعيّة إلى عصر الحريات الفردية داخل المجتمع اليهودي[3].
في الدستور الذي اقترحه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية (فيما يلي: "الدستور بالوفاق")، أُشيرَ إلى أن "التقويم العبريّ يشكّل تقويمًا رسميًّا في دولة إسرائيل". وقد يقول البعض إنّ مسألة ترسيخ التقويم العبريّ في الدستور لا تتعدّى كونها أمرًا هامشيًّا ورمزيًّا. هذا ليس بصحيح. فالقوة تكمن، بالذات، في الرمزية التي تتجسّد في ترسيخ أمور إضافية، تُبرِزُ، بدون تردد، القيم الإثنيّة-الدينية. فمثلاً، إذا كان في مقدور المحكمة العليا التدخل حتى الآن في قرارات المحاكم الدينية في الأحوال الشخصية، بغية الدفاع عن حقوق النساء وحقوق الفرد، فسيصبح تدخلها (المحكمة العليا) -حسب "الدستور بالوفاق"- في مواضيع كهذه محصورًا في نطاق ضيّق، لكون هذه المواضيع "غير قابلة للمقاضاة دستوريًّا" والتي تشمل كذلك:" الالتحاق بدين ما، الانتماء إلى دين أو الإرتداد عنه؛ طابع السبت اليهوديّ والأعياد اليهوديّة في الحيّز العام؛ المحافظة على "الكوشير" (الطعام الحلال) في المؤسّسات الرسمية".
نجح هَوَسُ الاصطفاف الجماعيّ لواضعي "الدستور بالوفاق" كذلك في التأثير على أسلوب صياغة بنود كثيرة أخرى. فعلى سبيل المثال، وبدل أن يُحدّد- كما هو متعارف عليه في الكثير من دساتير الدول- أن "العبريّة هي لغة رسميّة في دولة إسرائيل"، تَحدّد، بأسلوب غير مهني، ينبع من الرغبة في تعزيز الهيمنة الإثنية، التي تقطع الشك باليقين، تحدّد أنّ "العبريّة هي لغة الدولة". وهذا غيض من فيض[4].
يُهيمِنُ خطاب عصر السيد آلتشولر، الذي ميّز الأقلية اليهوديّة في فلسطين والسياسة الصهيونية في العام 1948، على "الدستور بالوفاق". هكذا يحدد "الدستور بالوفاق" أن وثيقة استقلال دولة إسرائيل، بنصها الكامل، ودون سواه، تشكل مقدمة (فاتحة) الدستور في دولة إسرائيل. ومن المعروف أن فاتحة الدستور –والتي تدعى: preamble- تحدد "المنظومة العقائدية" لمواطني الدولة، وعليه فهي تحمل دلالات ومعانيَ تربوية وتكاتفية بالنسبة لجميع المواطنين. وتتجسد الوظيفة القانونية للفاتحة في رسم الغايات الأساسية للدستور، لذا فهي تشكل أداة تفسيريةً لتعليمات الدستور، وتشكل في بعض الدول مصدرًا مستقلاًّ للحقوق5.
يُعتَبرُ مضمون وثيقة الاستقلال لدولة إسرائيل، كفاتحة للدستور- مقارنة بـ preambles الدساتير الجديدة للدول الديموقراطية التي سُنّت في العقدين الأخيرين- مفارقة تاريخية كبيرة. أولاً، ترتكز مضامين هذه الـ preambles على خطاب حقوق الإنسان، بينما في وثيقة الاستقلال- وعلى الرغم من تضمّنها لثلاث فقرات مقتضبة، تحمل طابعًا عامًّا، فإن المضمون السائد والبارز ذا طابع عينيّ خصوصيّ، وفي غاية الإثنية، وتغيب عنه المفردات التي على غرار: "دولة ديمقراطية"؛ "حقوق الإنسان"؛ "كرامة الإنسان وحريته". ثانيًا، وبخلاف مقدّمات دساتير الدول الديمقراطية، التي تتحدّث باسم جميع المواطنين أو الأمّة، تتحدث وثيقة الاستقلال باسم "ممثلي الشعب"- الشعب اليهوديّ، ممثلي الييشوف، والحركة الصهيونية بأجسامها المختلفة- فمن الواضح أنّ ذلك يشمل أجسامًا مثل الكيرن كييمت والوكالة اليهوديّة، التي تصرّح علنًا وأمام المحاكم بحقّها في التمييز تجاه غير اليهود6 .
ثالثًا، تعترف وثيقة استقلال دولة إسرائيل بتاريخ الشعب اليهوديّ وحضارته، وميراثه، وذاكرته الجماعيّة بشكل حصري، معلنة بذلك تفريغ البلاد من سكانها العرب الحاضرين فيها، وتحويلهم الى غائبين من السياق الكامل لمبدأ المواطنة. ويعرض العرب-في أحسن الأحوال- كمهاجرين قدموا إليها، وليس كسكان أصليين قدمت إليهم الدولة7.
يشكّل المبدأ التفريغي لوثيقة الاستقلال الإسرائيلية عاملاً مركزيًّا في التأثير على مبادئ "الدستور بالوفاق". ولم يكن من قبيل الصدفة أن يحدد المنطق الداخلي لهذه المبادئ أن أكثر ما يستحقه المواطنون العرب هو حقوق مدنية كتلك التي يتمتع بها المهاجرون. وكما ينبغي على جميع المهاجرين تَقبُّل "لغة الدولة" المضيفة وإهمال هويتهم وثقافتهم- التي تركوها طوعًا في أوطانهم الأصلية- ينبغي على المواطنين العرب تقبّل العبريّة كلغة الدولة8. وحدد "الدستور بالوفاق" في هذا السياق، أن اللغة العربيّة ستتوقّف عن كونها لغة رسمية في دولة إسرائيل، وستحظى بدل ذلك بـ"مكانة معترف بها"، أي مكانة غير مُلزِمة، ربما تصل في أحسن الحالات إلى working language. يشار هنا أن العربيّة هي لغة رسمية في دولة إسرائيل، بالاعتماد على البند 82 لأمر المندوب السامي في فلسطين، الذي حافظ على الوضع القائم منذ فترة الانتداب، على الرغم من عدم تطبيق السلطات لهذا البند بشكل فعليّ9.
على الرغم من كثرة نواقصه وعجزه، تتضح أفضلية خطاب الحقوق القانونية، المعمول بها اليوم تجاه الجماهير العربية، على ما يقدمه "الدستور بالوفاق". وقد حددت لجنة أور، مثلاً، أن "الأقلية العربيّة في إسرائيل هي أقلية أصلانية... وفقا للتمييز المقبول في الكتابات بين "أقليات أصلانية" وبين "أقليات مهاجرة"، فإن الأقلية العربية في اسرائيل تنتمي قطعيا الى الصنف الأول.... إنها تحمل معها ميراث، مواقف وتوقعات هؤلاء الذين كانوا دائما أغلبية"10. في قضية عدالة ضد بلدية تل أبيب- يافا يميز القاضي براك بين مكانة اللغة العربية وبين باقي اللغات (لا يشمل العبرية) حيث يقول انه "ما من لغة كاللغة العربية. فللغة العربية ميزة مزدوجة: أولا، العربية هي لغة أكبر أقلية في إسرائيل، والتي تعيش في إسرائيل منذ أجيال بعيدة. انها لغة مرتبطة بمميزات ثقافية تاريخية ودينية للأقلية العربية في اسرائيل".11
طرحت صيغة مشابهة لمبدأ تفريغ البلاد من سكانها الأصليين في فاتحة دستور مقدونيا الجديدة في العام 1991، لكن النضال العنيد الذي شنته الأقلية الألبانية (أقلية وطن)، وتدخل الاتحاد الاوروبي، أدّيا إلى إدخال تغييرات على الدستور في العام 2002، شملت تحديدًا مفاده أنّ مقدونيا هي دولة جميع قوميّاتها ومجموعاتها الإثنية. يذكر أن المفاوضات بين الطرفين استندت إلى فرضية أنّ نسبة الألبان تتراوح بين 20% وَ 25% من مجموع السكان في مقدونيا12.
في العام 1991، تحدد في فاتحة دستور مقدونيا أنّ مقدونيا هي دولة الشعب المقدوني، ويضمن مساواة كاملة لجميع المجموعات الإثنية داخلها13. عارضت الأقلية الألبانية هذا الأمر، وادّعت أنّ هذا التحديد يصنّف مكانتها المدنية كمكانة من الدرجة الثانية. ونتيجة لذلك، عمدت مجموعات ألبانيّة إلى الكفاح المسلح ضد تعريف الدولة بهذا الشكل14.
على ضوء تدخل الاتحاد الأوروبي، وقعت في 13.8.2001 اتفاقية Ohrid التي اقترحت شطب أيّ تطرّق إلى القوميّات من صيغة فاتحة الدستور، وحددت أنّ مقدونيا هي دولة مواطنيها15. عارض القوميّون المقدونيون والكنيسة المقدونية هذا التغيير، وأقاموا سلسلة بشرية حول البرلمان للحيلولة دون المصادقة على التعديل المقترح. وعارض قسم من الأقلية الألبانية هذا النص، وطالبت بنص صريح يتطرق إلى انتمائها إلى الشعب الألباني وعدم اعتبارها مجرد أقلية قوميّة. مقابل هذه المعارضة الشديدة، اقترح خافيير سولانا ممثل الاتحاد الاوروبي صيغة أخرى للفاتحة التي تتطرق إلى كلّ المجموعات الإثنية في مقدونيا، مع إلحاق كلمة people لكلّ من هذه المجموعات، وفي ما يخص الألبان تحدد التعريف: "المواطنون أبناء الشعب الألباني". في تاريخ 16.11.2001، صادق البرلمان بأغلبيّة كبيرة على النص النهائي للفاتحة التي طرحت ما يلي:
"The citizens of the Republic of Macedonia, the Macedonian people, as well as citizens living within its borders who are part of the Albanian people, the Turkish people, the Vlach people, the Serbian people, the Romany people, the Bosniac people and others…have decided to establish the Republic of Macedonia as an independent, sovereign state…"
تتمثّل احدى الوظائف المركزية للدساتير الديمقراطية في ترسيخ الحقوق المتميزة، التي تبتغي حماية الأقليات، والذود عنها أمام قوة الأغلبيّة. لكن، وعندما يقوم "الدستور بالوفاق" بِقلب الآية، ويتعامل مع الأغلبيّة القوميّة في دولة إسرائيل على أنها أقلية قوميّة، عندها، بالطبع، لا يبقي هذا الدستور أيّ مكان للدفاع عن حقوق الجماهيرالعربيّة. حسب بنود "الدستور بالوفاق"، إن شأن اليهود في دولة إسرائيل كشأن أقلية قوميّة، إذ يجب، بغية المحافظة على استقلاليتهم الثقافيّة، ترسيخ بنود كثيرة تشمل حقوقًا حصريّة، تحافظ على البنية الثقافيّة لـِ "الأقلية اليهوديّة" في مواجهة الانصهار أو التآكل!!
الأقلية القوميّة، لا الأغلبيّة المسيطرة، هي التي تحتاج بالذات إلى حقوق جماعيّة كي تضمن لأفرادها سياقا ثقافيا وتاريخيا(membership cultural). وسيؤدي المساس بالبنية الثقافيّة للأقلية إلى تآكل في حريات الأفراد الذين ينتمون إليها، وذلك بسبب العلاقة المتأصّلة بين حريات الفرد وسياقاتها الثقافيّة. لا ينسحب هذا الأمر على مجموعة الأغلبيّة المسيطرة، حيث أن السياق الثقافي مضمون للفرد الذي ينتمي إلى هذه الأغلبيّة، لأن لغته هي الرسمية والمهيمنة، لكونها لغة الأغلبيّة في الدولة16. إذًا ليس من قبيل المصادفة أن يتطرق القانون الدولي إلى حقوق حصرية للأقلية لا للمجموعة المهيمنة. لذا، يعتبر أي تشريع إضافي، يرمي إلى تعزيز الهوية الإثنية للأغلبيّة المهيمنة، مساسًا بمبدأ المساواة بين المجموعات المختلفة من ناحية، وبالاستقلال الذاتي للأفراد الذين ينتمون إلى مجموعة الأغلبيّة (كما في حالة كستنباوم مثلاً) من ناحية أخرى.
لا أدّعي هنا عدم توافر حقوق جماعيّة للأغلبيّة القوميّة، بل أدّعي أن التفضيل الذي يتجاوز ما هو مشروع في إطار حق تقرير المصير يحمل الكثير من الإشكاليّة، لأنه يقود نحو تمييز محظور على خلفية جماعيّة، ويمس بالاستقلال الشخصي للفرد. في الأنظمة الديمقراطية، ينعكس حق تقرير المصير للشعوب بكون لغتهم لغة رسمية. بطبيعة الحال، يكفل الاعتراف باللغة الرسمية الحقوقَ الثقافيّة. تتجسد فرنسية الفرنسيين باللغة الفرنسية كلغة رسمية، لا بتفضيل آخر على خلفية إثنية. ينسحب هذا الأمر على الأمريكيين والإنجليز وغيرهم. كذلك أدعي أن الدولة تستطيع، بل يجب عليها في بعض الحالات، أن تطبّق حقّ تقرير المصير لأكثر من شعب واحد. ولا يمكن الزعم، على سبيل المثال، أنّ الكنديين الذين يتحدثون الإنجليزية لا يتمتعون بحق تقرير المصير في كندا لأنّ كندا تمنح حقّ تقرير المصير للناطقين بالفرنسية كذلك[5].
حق تقرير المصير لأبناء الشعب اليهوديّ في دولة إسرائيل يتجسد باللغة العبريّة كلغة رسمية في هذه الدولة. إضافة إلى ذلك، وبسبب خصوصية الرابط بين الدين اليهوديّ والقوميّة، يشكّل ضمان الحكم الذاتي الديني للتجمّعات الدينية اليهوديّة في دولة إسرائيل جزءًا من حقّ تقرير المصير للمواطنين اليهود في دولة إسرائيل. عمليًّا وفعليّاً، أدى هذان المركّبان وحدهما إلى أن تكون دولة إسرائيل هي الوحيدة في العالم التي تحمل اسمًا عبريًّا-يهوديًّا، وهي الوحيدة في العالم التي تستعمل، تحقّق، تعبّر وتضمن نموّ وازدهار وثراء اللغة العبريّة، الثقافة العبريّة والدين اليهوديّ17 .
لذلك، ليست هناك أية شرعية في منح الأغلبية القومية حقوقا اضافية، عدا التي تخص الإعتراف بلغتها كلغة رسميّة، وفي بعض الحالات الأوتونوميا الدينية. أية حقوق اضافية تعتبر تمييزا غير شرعي على خلفية قومية ولا دخل لها بمسألة حق تقرير المصير، وخاصة أن هنالك مجموعات أخرى تستحق أيضا الاعتراف بحقها في تقرير المصير في إطار الدولة.
تتلاءم التجربة الهنغارية حديثة العهد في مسألة الهجرة والمواطنة مع هذه المسألة. في هذه الدولة التي لا تمتاز بعراقة تقاليدها اللبرالية، صوّت الهنغاريون في الاستفتاء الذي جرى في تاريخ 5.12.2004 ضد اقتراح سن تشريع لمنح المواطنة لكل الأفراد من ذوي الأصول الهنغارية18. وادّعى الهنغاريون القوميّون الذين أيدوا هذا الاقتراح ان نحو 5 ملايين هنغاريّ وجدوا أنفسهم يسكون داخل الدول التي تحدّ هنغاريا، نتيجة الظلم التاريخي في رسم الحدود خلال الحرب العالمية الأولى، وان هؤلاء ما زالوا يعانون من التمييز داخل هذه الدول؛ وعليه ادعى هؤلاء ان هذا الاقتراح يصحح الظلم التاريخي الذي وقع على الشعب الهنغاري، وأنّه على هنغاريا ان تعمل على توحيد الشعب من جديد. لكن الحزب الليبرالي-الاشتراكي الحاكم والدول المجاورة عبروا عن معارضتهم لهذا الاقتراح الذي لم ينجح في الاستفتاء.
مما لا شك فيه أن الفزع غير العقلاني من وجود الهوية العربيّة الفلسطينية للجماهير العربيّة هو الذي حَدَا بمقترحي "الدستور بالوفاق" إلى إبراز "تماسك" المجموعة اليهوديّة في الدستور، وليس مسألة حق تقرير المصير للمواطنين اليهود، وهي نفس النـزعة القوميّة التي تعمل على المصادقة مجدّدًا على مبدأ التماسك الديني-القوميّ الذي أسقطته المحكمة في كستنباوم والإعلان عنه اليوم معياراً قضائيًّا رفيعًا. وتشكل هذه النـزعة القوميّة مصدر التنكر للحقوق الجماعيّة المتساوية للجماهير العربية.
لماذا يواصل بعض الأكاديميين اليهود الليبراليين، ممن عُرفوا بنضالهم من أجل حقوق الفرد حسب مفهوم كستنباوم، على الرغم مما ذُكر، دعمَهم لـِ "الدستور بالوفاق"؟ يعتقد هؤلاء أن "الدستور بالوفاق"، على الرغم من مساوئ تعليماته، يمثّل أقصى ما يمكن الموافقة عليه على ضوء ميزان القوى السياسيّ الحاليّ، ويبقى أفضل من المستقبل الذي قد يشهد تدهورًا مقارنة بالوضع القائم حاليًّا.
صحيح أن وظيفة الدستور الديمقراطي استشراف المستقبل بغية الحدّ من تجاوزات مستقبلية مكثفة لحقوق الإنسان. ولهذا السبب المهم، نشهد في العقدين الأخيرين إجراءات صياغة الدساتير في الكثير من الدول، ومن بينها دول الكتلة الشرقية الشيوعية السابقة19، وتلك التي سادتها سياسات القمع والتمييز على خلفية إثنية، أو أنظمة عسكرية أو استبدادية. شكلت عملية بناء الدستور في هذه الدول مرحلة تحول تاريخي في الثقافة السياسيّة السائدة. وبغية خلق ثقافة جديدة تعتمد منهج حقوق الإنسان، وجّهت هذه الدول أنظارها إلى الوراء لفحص ماضيها، والاعتراف بالمظالم التاريخية، والوصول إلى مصالحة تاريخية مع المجموعات التي عانت من التمييز والقمع خلال حقبة طويلة من الزمن.20
في عدد كبير من هذه الدول، أُجرِيتْ مفاوضات مُنصِفَة بين المجموعات المختلفة حول المبادئ التي ينبغي العمل بها في سبيل توجيه طريقة إدارة عملية بناء الدستور، بما في ذلك تحديد آلية اتّخاذ القرارات التي ستقود إلى صياغة الدستور (The Interim Period)، وكل ذلك ابتغاء تفادي منح المجموعة المهيمنة إمكانية أن تملي تصوراتها، وبهدف دمج جميع المجموعات في عملية البناء نفسها، وبخاصّة أولئك الذين كانوا عُرضَةً للقمع والاضطهاد التاريخيّ. وشكّل دمج كهذا في الإجراء المرحلي، والاعتراف بحصول خروق في مجال حقوق الإنسان، مسبّبين رئيسيّين في تحويل سيرورة البناء نفسها إلى عملية تحوّل تاريخي. هذا ما حصل في بولونيا، وهنغاريا، وتيمور الشرقية، والبرازيل، وأثيوبيا، وأوغندا، وكينيا، ورواندا، ونيكاراغوا، وكمبوديا، وجزر الفيجي، وجنوب أفريقيا التي تُعدُّ أبرز هذه الأمثلة، حيث جرت هناك عمليّة فحص عميقة لخروقات حقوق الإنسان خلال مرحلة الأبرتهايد21.
لم يأتِ مسلك تأسيس "الدستور بالوفاق" على هذا النحو، إذ لا يقتصر الأمر على نأيه عن أي نوع من الدمج، بمفهوم تحديد interim period ، ولا على مساسه بالوضع القائم، بل يتعدّى كل ذلك إلى التصرف وكأنّ التمييز والقمع ضد الجماهير العربية لم يحصلا قَطّ، فليس ثمّة قرى غير معترف بها، ولا مواطنون هُجّروا من قراهم بعد إقامة الدولة، ولا يرزح أكثر من ثلاثة ملايين شخص تحت الاحتلال الإسرائيليّ، وليس هنالك لاجئون فلسطينيون، والقدس هي عاصمة السلام الموحّدة، وحدود دولة إسرائيل معروفة للقاصي والداني!22
بالمقارنة مع الدساتير الجديدة للدول المذكورة أعلاه، يعرض "الدستور بالوفاق" الماضيَ الذي عملت هذه الدساتير على تفادي عودته. من المؤكد ان بعض هذه الدول عانت في الماضي من دساتير ذات صبغة "جماعيّة- أيديولوجية"، وعانى بعضها الآخر من دساتير "إثنية- إقصائيّة". يجسّد "الدستور بالوفاق" هاتين النـزعتين الماضويّتين. لذا، فهو سيّئ لجميع المواطنين، إذ إنّه "أيديولوجي" تجاه المواطنين اليهود، وَ "إثنيّ" تجاه المواطنين العرب.
[1] المدير العامّ لجمعية عدالة- المركز القانوني لحقوق الأقلية العربيّة في إسرائيل. نُشر قسم من هذه المقالة في مجلة "هليشكا" ("النقابة")، (نقابة المحامين في إسرائيل، لواء القدس، نيسان 2005)، العدد 71، ص 13 (عبري).
[2] انظروا الإشارات في مقالة رونين شامير،" ليكس مورياندي": حول وفاة القانون الإسرائيلي" موتنار، شاغي، شامير (محرّرون)، التعددية في دولة يهوديّة وديموقراطية (راموت، جامعة تل أبيب، 1998)، ص 589؛ 600-601 (عبري).
[3] م.ع. 91/294 حفرات قاديشا "قهيلات يروشالايم" ضد كستنباوم، قرار حكم 46(2)، ص 464.
[4] يظهر الدستور المقترح على موقع المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، والمعلومات هنا محتلنة لشهر كانون الثاني عام 2005: www.idi.org.il
5 أمنون روبنشتاين وليئاف أورغاد، "فاتحة الدستور ومكانتها القانونية: الحالة الإسرائيلية"، سيُنشَر في آب عام 2005 في مجلد القانون (عبري).
Jeremy Webber, "Constitutional Poetry: The Tension between Symbolic and Functional Aims in Constitutional Reform,” 21 Sydney Law Review 260 (1999); Eric M. Axler, "Note: The Power of the Preamble and the Ninth Amendment: The Restoration of the People's Unenumerated Rights," 24 Seton Hall Legislative Journal 431 (2000); Gilbert Paul Carrasco and Congressman Peter W. Rodino, "Unalienable Rights: The Preamble and the Ninth Amendment: The Spirit of the Constitution," 20 Seton Hall Law Review 498 (1990).
6 هل سيؤدي التفسير القانوني لهذه الفاتحة في المستقبل الى التحديد القانوني بالسماح لهذه الأجسام ان تواصل مشاركتها في إدارة دائرة إسرائيل -مثلاً؟ تلك مسألة قانونيّة تلزمنا، على كل حال، ان نطرحها في المستقبل أمام المحكمة العليا الإسرائيلية.
7 بعد قرار الحكم في قضية مابو- Mabo - المعروفة عام 1992 في أستراليا، والذي اعترف بطرق ملكيّة الأرض الخاصة بالشعوب الأصلانية، بدأ هناك نقاش حول ضرورة تغيير فاتحة الدستور الأسترالي التي تنكر الشعوب الأصلانية، أنظر:
Mark McKenna, "First Words: A Brief History of Public Debate on a New Preamble to the Australian Constitution,'” Parliament of
يتحفظ كل من روبنشتاين وأورغاد من شمل النص الكامل لوثيقة الاستقلال كفاتحة للدستور لأسباب عديدة، فالوثيقةّ تعاني من "العينية"، وصيغة المتكلّمين هي يهوديّة، واقتصر التوقيع عليها على اليهود فقط. لكنهما، على الرغم من ذلك، يتطرقان الى اهمية اعتماد الفاتحة على الوثيقة لدوافع تاريخية وقانونية واجتماعية وعملية. لذا، فهما يقترحان تبني الامور الجوهرية في الوثيقة كفاتحة لدستور دولة إسرائيل بالاستناد الى النص الذي ادرج في بنود افتتاح قانوني الأساس (كرامة الانسان وحريته، وحرية العمل)، أي الاكتفاء بالتوجيه الى مبادئ الوثيقة، مع عدم حضور الصيغة الكاملة داخل نص الدستور. ويمكن لهذا الاقتراح، في رأيي، التخفيف من الاغتراب المدني لكنه لن يلغيه. أضف الى ذلك أنّه ليس بإمكان هذا الاقتراح إبطال المخاطر القضائية التي قد تهدد حقوق المواطنين العرب.
8 حسن جبارين، "استشراف إسرائيلي لمستقبل المواطنين العرب في إسرائيل وفقا لزمن يهودي صهيوني في حيز بلا ذاكرة فلسطينية"، ميشباط وميمشال 6(1)، تموز 2001، ص 53-86 (عبري). نُشر نص مشابه لهذا المقال بالانجليزية في:
Hassan Jabareen, "The Future of Arab Citizenship in
9 حول مكانة اللغة العربيّة، انظروا: إيلان سبان ومحمد أمارة،" مكانة اللغة العربيّة في إسرائيل: القانون، الواقع وحدود استعمال القانون من أجل تغيير الواقع"، ماجد الحاجّ وأسعد غانم (محرّران): العرب في إسرائيل: معضلات قوميّة ومدنيّة (جامعة حيفا، 2004) 855 (عبري).
10 تقرير لجنة التحقيق الرسميّة لاستيضاح المواجهات بين قوات الأمن والمواطنين الإسرائيليين في أكتوبر 2000، المجلد الأول، ص 26-27 (أيلول 2003) (عبري).
11 م.ع 99/ 4112، عدالة ضد بلدية تل أبيب-يافا، قرار حكم 2002 (2) 603، فقرة 25 لقرار حكم القاضي براك؛ أنظر تعليق سبان وأمارة على هذا في مقالهما أعلاه، ص 900.
12 Vladimir Jovanovski and Lirim Dulovi, “A New Battlefield: The Struggle to Ratify the Ohrid Agreement,” in The Institute of War and Peace Reporting, Ohrid & Beyond (2002); "Constitutional Watch", in 10(1) and 10(4) East European Constitutional Review (2001), a publication of New York University School of Law and the Central European University;
أنظر أيضا تعليق روبنشطاين وأورغاد على حالة مقدونيا في الفصل الثالث لمقالهما.
13جاء في النص الأولي لفاتحة دستور مقدونيا ما يلي:
"
ملفات متعلقة:
Read more: