تعذيب على الطريقة الأمريكية
ليزا حجّار | مجلة عدالةالالكترونيّة، العدد 61، أيّار 2009
لقد جاء القرار بإجازة التعذيب على أثر هجمات 11 أيلول 2001 مباشرةً، قبل أن يتمّ اعتقال أيّ مشتبه فيهم. في السابع عشر من أيلول وقّع الرئيس بوش مذكّرة تفاهم تخوّل وكالة المخابرات المركزية (CIA ) صلاحية إنشاء معتقل سرّي وإجراء تحقيقات خارج الحدود الأمريكية. فقد تمّ تصعيد برنامج المقاضاة الخاص بعهد كلينتون إلى "المقاضاة الاستثنائية"، والتي أجازت لوكالة المخابرات المركزية اختطاف أشخاص من أيّ مكان في العالم وإخفاءهم في "مواقع سوداء"، أو نقلهم بشكل منافٍ للقانون إلى دول ذات سجلات متأصّلة في التعذيب، مثل مصر والمغرب. وبحلول كانون الأوّل 2001 بدأ البنتاغون بتقصّي سبل كيفيّة القيام بـ"هندسة معكوسة" للتقنيات المعروفة بتقنيات SERE (البقاء على قيد الحياة، المراوغة، المقاومة والانتزاع)، والتي كان قد تمّ تطويرها خلال الحرب الباردة لتدريب جنود الولايات المتحدة الأمريكية في حال تمّ إلقاء القبض عليهم من قبل أنظمة لا تلتزم بمعاهدات جنيف.
لقد التفّت إدارة بوش على الحظورات المفروضة على تعذيب الجنود وإساءة معاملتهم، عبر الإعلان عن معاهدات جنيف بوصفها غير قابلة للتطبيق في "الحرب على الإرهاب"، وهو ما قام به الرئيس من خلال توجيهات سرية إلى طاقم الأمن القومي التابع له (وسط معارضة وزارة الخارجيّة)، بتاريخ 7 شباط 2002. ووضعَ طاقم "محامي التعذيب" من البيت الأبيض، مكتب المستشار القضائي التابع لوزارة القضاء (OLC) والبنتاغون، مجموعةً من التفسيرات والتسويغات الأمنية لإجازة تكتيكات استجواب عنيفة ومؤلمة، ولتفادي المجازفة بتحمّل مسؤولية جنائية عن القيام بذلك. تمّ تصنيف المعتقلين كـ"مقاتلين غير شرعيين" واعتقالهم في غوانتانامو (GITMO)حيث سيجري احتجازهم بشكل معزول عن العالم وبدون مكانة إجراء الاستماع، ما يعني حرمانهم من حقوق "قانون الإحضار أمام قاض" (Habeas Corpus) وهو، جدلاً، القاعدة الأساسية للمعيار القضائي الذي يعود مصدره إلى الماغنا كارتا ( (Magna Carta .
في عام 2002 صاغ محامو OLCمذكرة لوكالة المخابرات المركزية تحدّ من تعريف التعذيب الجسديّ بحيث يستثني كلّ ما يقلّ عن "الألم المرافق للإصابة الجسدية الجدية، مثل الانهيار العضوي، تعطّل الأداء الجسدي، وحتى الموت". كذلك، فقد زعموا أنّ المعاملة الفظّة، غير الإنسانية والمهينة (CID) لن تعتبر بمثابة تعذيب نفسيّ ما لم تتسبّب بنتائج تدوم "لشهور أو حتى سنوات". إنّ التسويغات القانونية التي قُدّمت لوكالة المخابرات المركزية أثّرت على توجيهات البنتاغون اللاحقة بشأن الاستجوابات العسكرية في غوانتانامو.
إن الاستجوابات التي تجيز التعذيب وسياسات الاعتقال هذه تركت أثرها على مئات آلاف الأشخاص: لو أخذنا بالحسبان المعتقلين الذين تمّ احتجازهم خارج الحدود الأمريكية، فقط، فقد تمّ احتجاز نحو 500-600 معتقل في باغرام في أي فترة من الفترات التي أعقبت غارة 2001، وهو رقم لا يشتمل على احتجاز معتقلين "غير مسجّلين" من قبل وكالة المخابرات المركزية أو القوّات الخاصة. في العراق، ارتفع الرقم في أواخر 2007 نتيجة لـ "الإعصار" إلى 51,000 ، بمَن فيهم مئات القاصرين. في فترة الذروة، تمّ احتجاز 775 معتقلا في غوانتانامو، ويقدّر أنّه تم احتجاز 100 شخص قيد الاعتقال السرّي من قبل وكالة المخابرات المركزية. بحلول كانون الثاني 2009، كان هناك 245 معتقلاً في غوانتانامو، 700 في أفغانستان، 200 في القرن الإفريقي، و 39 عُرف أنّ وكالة المخابرات المركزية قد قبضت عليهم ولكن لا يُعرف شيء عنهم.
كانت الغالبية الساحقة هي من الأبرياء أو ممّن لا يعنون شيئًا للمخابرات: فالآلاف تمّ حصدهم خلال حملات مداهمة، وتمّ احتجاز المئات مقابل منح أمريكية كبيرة تمّ دفعها، البعض أعطيت أسماؤهم من قبل آخرين تحت التعذيب، وكان البعض ضحايا لتشخيصات خاطئة لهويّاتهم. لكن معظم الأسرى ظلّوا قيد الاعتقال، ولا يزال العديدون خاضعين للاستجواب لفترة طويلة قبل أن تتّضح براءتهم أو أنهم عديمو القيمة الاستخباراتية.
كان أبو زبيدة (الاسم المستعار لزين العابدين محمّد) أوّل "هدف كبير القيمة" يتمّ اعتقاله في أوائل 2002. وكان تعرّض وهو قيد الاعتقال من قبل وكالة المخابرات المركزية إلى الغمر بالمياه 83 مرة، كما تمّ احتجازه في صندوق شبيه بالتابوت يحتوي على حشرات. وقد شكّلت معاملته تحضيرًا لأرضية برنامج الاستجوابات الخاص بوكالة المخابرات المركزية، الذي تمّ "تصديره" بالتالي إلى غوانتانامو ولاحقًا إلى العراق. إنّ أحد العوامل التي ساهمت في تصعيد فظاظته كان المغالاة في تقدير أهمّيته. فعلى العكس من الفرضية المسبّقة بأنه كان مسؤول العمليات والتجنيد في القاعدة، كان في الحقيقة مسؤول استقبال واستضافة في تحرّكات الأشخاص في قواعد التدريب وبينها. حتى أنّه لم ينضمّ إلى القاعدة حتى ما بعد 11/9. ووفقًا لمسؤولين حكوميين كبار قاموا بمتابعة الاستجوابات، لم يتمّ إحباط أية مكيدة نتيجة لاعترافاته تحت التعذيب، بل إنّ بلاغاته الكاذبة التي نقلها لوقف الألم (المقصود هجمات مخطّطة ضد مراكز تجارية، منشآت نووية، جسر بروكلين وتمثال الحرية) حملت المئات من محقّقي وكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفدرالي ضمن حملة مطاردة لأشباح.
خلافًا لأبو زبيدة، فإنّ خالد الشيخ محمد كان مصدرًا ذا قيمة استخباراتية. لم يتمّ القبض عليه في العام 2003 نتيجة لمعلومات جُمعت عبر التعذيب، وإنّما مقابل مكافأة بمبلغ 25 مليون دولار. تعرّض خالد الشيخ محمد إلى الغمر بالمياه 183 مرّة وسط وقاية تامة بموجب تصنيفات وكالة المخابرات المركزية. وفقًا لمسؤولين سابقين في وكالة المخابرات المركزية والبنتاغون، ممّن لديهم معرفة مباشرة باستجواباته، فإن غالبية ما قاله تحت التعذيب كان أكاذيب، ولم ينقل أية معلومات استخباراتية ذات قيمة تطبيقية.
إنّ لافاعلية التعذيب خلال استجواب شخص بقيمة خالد الشيخ محمد كانت حقيقة برنامج التعذيب الداخلي الخاص بالولايات المتحدة. وفقًا للصحفي المحقّق ديفيد روز، الذي أجرى مقابلات مع العديد من مسؤولي مكافحة الإرهاب من الولايات المتحدة وغيرها، فقد كانت استجواباتهم إجماعية: "ليس فقط أن أساليب الإكراه فشلت في جمع معلومات استخباراتية مهمّة وتطبيقية، بل إنها أدّت، أيضًا، إلى تبذير الموارد بشكل واسع..".
إنّ تعذيب العرب والمسلمين تحوّل إلى أداة هامة في التجنيد للقاعدة ولمنظّمات إرهابية أخرى. وفقًا لماثيو ألكسندر (اسم مستعار) وهو رائد متقاعد في القوّات الجوية يتمتع بتجربة واسعة في التحقيقات في العراق، فإنّ السبب الأول في جعل مقاتلين أجانب يأتون إلى العراق هو الغضب على التعذيب وسوء المعاملة في أبو غريب وغوانتانامو. ولكون غالبية القتلى والجرحى (من عسكريين ومدنيين) هم نتيجة لتفجيرات انتحارية وعبوات على جوانب الطرق، والتي ينفّذ معظمها مقاتلون أجانب، فبموجب أقوال ألكسندر إنّ "حياة مئات على الأقلّ، وربّما آلاف، من الأمريكيين (دون احتساب وفيات المدنيين العراقيين) مرتبطة مباشرة بقرار وضع سياسة إدخال التعذيب وسوء معاملة السجناء".
إنّ تجارب الماضي الرهيبة لدى أمريكا مع التعذيب – في فيتنام، تشيلي وغواتيمالا، لو ذكرنا بعضًا منها – يجب أن تردع المسؤولين عن إجازة التعذيب بعد 11/9. فاليوم لدينا فرصة مهيّأة لاستخلاص العبر. أوّلاً، لا يمكن استخدام التعذيب بدقّة إستراتيجية؛ استخدام أساليبه تنتشر، حيث ينشأ هناك التباس حتميّ، وفي الحالة الأمريكية التباس هائل، في تعذيب أبرياء. ثانيًا، التعذيب غير فعّال في تحقيق الأمن؛ على النقيض من ذلك، إن الدول التي لا تعذّب السجناء (أو تتصرّف على نحو قانوني) تواجه قدرًا أقل من الإرهاب فعليًّا، وجهودها في مكافحة الإرهاب فعّالة أكثر. ما ينقص الولايات المتحدة وما تحتاج جدًا إليه بعد 11/9 هو مخابرات إنسانية، لكن القرار بإجازة التعذيب عاد بنتائج عكسية: عبر الاعتقالات العشوائية للأبرياء، وعبر تعريض العديد جدا من السجناء إلى معاملة عنيفة وغير إنسانية، السعي خلف عون وتعاون استخباراتي بين مجتمعات شديدة الأهمية، ناهيك عن "القلوب والعقول"، كان بمثابة لعنة. ثالثًا، عدم شرعية وعدم قانونية التعذيب على مستوى العالم جلب إدانة مشروعة من قبل حكومات أجنبية حليفة، وقلّص من الدعم الداخلي للإدارة ومن الثقة بها، خصوصًا لدى مسؤولي الأمن، الخبراء القانونيين والمثقّفين.
إنّ الحالة الأمريكية تثبت، وبأبهظ ثمن، أنّ التعذيب لا فائدة تُرتجى منه وفقًا لأيّ مقياس. فليس هناك أي نظام أو مجتمع حديث أكثر أمنًا نتيجة للتعذيب. فاستعماله ينتشر، ضرره يتضاعف، ونتائجه الفتّاكة تعزّز الإرهاب بدلاً من أن تقلّل منه.
*مديرة برنامج القانون والمجتمع، جامعة كاليفورنيا - سانتا باربرا
- اللوحة لموران باراك