إعتقالات سريّة برعاية قانونية
الدمج بين هذه الإجراءات يحوّل الاعتقال إلى اعتقال سريّ يطابق إخفاء المعتقلين المتبعة في أنظمة ظلاميّة. هذه بالأساس أداة ترهيب وترويع وليست وسائل تحقيق.
بعد عودته من زيارة إلى لبنان للمشاركة في نشاطات صحافيّة، اعتُقل مجد كيّال، محرر موقع عدالة على الانترنت، لتعود باعتقاله قضيّة الاعتقالات السرّيّة تُطرح من جديدٍ وبقوّة. عندما يتم اعتقال متهمٍ بمخالفات تعرّف كمخالفات أمنيّة، يفعّل جهاز الشاباك (المخابرات الإسرائيليّة) المسؤول عن التحقيق صلاحيّات واسعة يكفلها له القانون، بحيث تمكّنه من اتخاذ خطوات فعليّة تعسفيّة مختلفة بحقّ المعتقل، حتّى تتألف حالة يكون فيها الاعتقال مخفيّا تتعطّل فيه كل الحقوق القانونيّة والدستوريّة التي يُفترض أن تحمي المعتقل. هذه الممارسات، خاصةً حين تتحقق كلها في الوقت ذاته، تشكّل مسًا وقحًا بالحقوق الأساسيّة للمعتقل، وتفرّغ حق المعتقل بالإجراء القضائي العادل، وهو حق دستوريّ، من مضمونه كليًا. كذلك، تمكّن هذه الممارسات أجهزة التحقيق من استخدام وسائل التعذيب المحرّمة، وتحول دون إمكانيّة إبداء موقفٍ جماهيريّ، وفي بعض الأحيان موقفٍ قضائي، ضد الاعتقال وممارسات الشاباك. في هذه الورقة، سنحاول استعراض هذه الممارسات وأثرها الخطير على حقوق المعتقل.
منع لقاء محامٍ: من حق المعتقل أن يحظى باستشارة من قبل محامي الدفاع، بحسب القانون الإسرائيلي والدوليّ، يُعتبر هذا الحقّ حقًا أساسيًا. في الحالات التي يتم فيها اعتقال مشتبه بمخالفات تُعرّف كمخالفات أمنيّة، يحوّل الشاباك هذا الحق الأساسي إلى حقٍ مع وقف التنفيذ. رئيس طاقم المحققين أو رئيس قسم التحقيقات في الشاباك لديه الصلاحيّة لاستصدار أمرٍ يمنع لقاء معتقلٍ مع محاميه بادعاء أن هذا اللقاء يمكنه أن يعرقل إجراءات التحقيق، أو يشكّل خطرًا على سلامة الجمهور. ويمكنهم تمديد أمر المنع حتى فترة أقصاها عشرة أيام، ومن بعدها يُمكنهم التقدم بطلب للمحكمة لتمدد إلى فترةٍ أقصاها 21 يومًا.
يعتبر لقاء المعتقل مع محاميه قبل وخلال التحقيق حقًا أساسيّا دستوريّا ومُلحّا من أجل الحفاظ على حق المعتقل بإجراء قانونيّ عادل، الامتناع عن إدانة نفسه، وأن لا يكون ضحيّة مؤامرات وخدع المحققين فيدلي باعترافات لا تمت للواقع بصلة. هذه العلاقة ضروريّة من أجل الاشراف على التحقيق وضمان عدم استخدام أي من وسائل التحقيق المحظورة، بما في ذلك التعذيب. من خلال منع لقاء المحامي، يتم عمليًا فصل المعتقل عن العالم الخارجي، والجهة الوحيدة التي يتواصل معها المعتقل تكون جهة المحققين.
بشكل عام، تعتمد الطلبات التي يقدمها الشاباك لتمديد الاعتقال على أدلة سريّة، ولكن المحادثة بين المحامي والمعتقل يمكنها أن تكشف طبيعة التحقيق وإلى أين يتّجه، التُهم والملابسات التي يجري الحديث عنها. بهذه الطريقة فقط، يمكن لمحامي الدفاع أن يتحدّى ادعاءات الشرطة والمخابرات أمام المحكمة، ويدّعي براءة موكّله. في حالة منع اللقاء مع المحامي، تتقلص، أو لنقل تنعدم، قدرة محامي الدفاع على تمثيل موكّله بشكلٍ ناجعٍ وفعّال.
وافقت المحكمة في قضيّة مجد كيّال، معتمدةً على أدلة سريّة، أن تمدد اعتقاله لثمانية أيام يعرف خلالها كيّال أن تحت أمر يمنعه من لقاء محاميه، وهو ما كان يمكنه أن يمتد على طول فترة الاعتقال. اعتمادًا على هذه الأدلة، وافقت المحكمة على أن تفرض أمر منع نشر على كل تفاصيل الاعتقال والتحقيق على مدار فترة اعتقال كيّال.
أمر منع النشر: غالبًا، عندما يصنف تحقيق على انه تحقيق أمنيّ، يطلب الشاباك من المحكمة فرض أمر منع نشر جارف حول اعتقال شخص ما وعلى تفاصيل التحقيق والتهم الموجهة ضده. ويعتمد هذا الطلب غالبًا على أدلةٍ سريّة لا يمكن للمعتقل ولطاقم الدفاع أن يطّلعوا عليها أو يثبتوا هشاشتها أمام المحكمة. أما الادعاء المستخدم في غالب الحالات من قبل سلطات التحقيق فمفاده أن النشر يمكنه أن يعرقل مجرى التحقيق. إنما في عصر الاتصالات والعولمة والشبكات الاجتماعيّة، لا يمكن أبدًا أن يُطبّق مثل هذا الأمر، ولا يمكن أبدًا اخفاء خبر اعتقال شخص أو اخفاء طابع التهم المركزيّة ضده. في هذه الحالة، من كان مهتمًا بأن يعرف عن الاعتقال، سيعرف بالطبع، خاصةً إن كان ذلك بعد ساعات وأيامٍ طويلة.
في نهاية المطاف، يكون أمر منع النشر ملزمًا لوسائل الإعلام الإسرائيليّة فقط، وبذلك فإن الأمر عمليًا يحرر سلطات التحقيق من إمكانيّة انتقادهما من قبل وسائل الإعلام والرأي العام. تحت أمر منع النشر، لا يحتاج المحققون أن يوضّحوا الحاجة لاعتقال شخصٍ ما، ولا أن يوضّحوا أسباب المسّ بحقوقه. المسّ الأساسي والخطير الناتج عن أمر منع النشر هو مس بحقوق المعتقل أولاً، لأنه لا يستطيع أن يعرض روايته الكاملة ويدافع عن حقيقتها أمام الرأي العام.
إذا ما نظرنا إلى اعتقال مجد كيّال، مثلاً، نرى أن أمر منع النشر الذي فُرض في الملف أتى بعد أن نشرت وسائل إعلام محليّة ودوليّة خبر اعتقاله على نحوٍ واسع، كما انتشرت الأخبار بسرعةٍ هائلة من خلال الشبكات الاجتماعيّة. لم يكن من المفاجئ أن يُزال منع لقاء المحامي قبل وقتٍ قصيرٍ من إزالة منع النشر، وأن يتم بعد إزالة منع النشر، تحرير كيّال كليًا من الاعتقال إلى الحبس المنزلي.
انعدام توثيق جلسات التحقيق: يلزم القانون الإسرائيلي سلطات التحقيق أن توثّق بالصوت والصورة كل تحقيق مع متّهم، إذا ما كانت العقوبة القصوى التي يحددها القانون على المخالفات المنسوبة إليه، تتعدى عشر سنوات السجن الفعلي. لكن هذا الإلزام القانوني لا ينطبق على المتهمين بارتكاب مخالفات تعرّف أمنيّة وتقع تحت مسؤولية الشاباك. إنعدام التوثيق لجلسات التحقيق يشكّل ثغرة خطيرة تمكّن من استخدام وسائل تحقيق محظورة، كما أنه يحول دون امكانيّة إثبات الضحيّة استخدام هذه الوسائل بحقها. لا يستطيع المعتقل أن يثبت أنه تعرّض للتعذيب، أنه كان ضحيّة لخدع المحققين، أو أن المحققين انتزعوا منه اعترافات لا أساس لها من الحقيقة. إذا ما ادعى المعتقل أمام المحكمة أن الاعترافات التي انتزعت منه انتزعت بشكلٍ غير قانونيّ، لن يكون لديه أي إثباتٍ على ذلك، ومن جهتها، تنحاز المحكمة غالبًا لتصديق رواية سلطات التحقيق.
في حالة الصحفي مجد كيّال، معظم التحقيقات التي تعرض لها خلال أيام الاعتقال الخمس، لم يتم توثيقه أبدًا، حتى ولا عن طريق الكتابةً. لم يُطلب منه أن يوقّع على أقواله في نهاية التحقيق كما هو متبع بتحقيقات جنائيّة عاديّة. هذه الامور وغيره تثير شكوكًا جديّة حول ماهيّة التحقيقات وقانونيّتها.
تمديد الاعتقال لفترات طويلة: مع الإعلان عن التحقيق كتحقيق بتهمٍ أمنيّة، يطلب الشاباك من المحكمة تمديد اعتقال المتهم لفترةٍ قصوى مدّتها بحسب القانون 15 يومًا. في الحالات الأمنيّة، غالبًا ما تستجيب المحكمة لطلب السلطات وإن بدرجات متفاوتة، وتمدد اعتقال المتهمين لفترات طويلة متواصلة.
من الجدير بالذكر أن تمديد اعتقال شخص ما عليه أن يكون إما لغرض التحقيق، وإما من أجل منعه من تشكيل الخطر على سلامة الجمهور. مهما زادت خطورة التهم المنسوبة للمتهم، إن لم تثبت سلطات التحقيق بأن اعتقال المتهم ضروري لغرض التحقق، أو أن إطلاق سراح المتهم يشكل خطورةً على سلامة الجمهور، لا يوجد للمحكمة سببًا لتمديد اعتقال المتهم. ولأن تمديد الاعتقال يعتمد على أدلة سريّة، والمعتقل ممنوع من لقاء محاميه، لا يمتلك المحامي أي إمكانيّة عمليّة لتحدّي طلب الشرطة لتمديد الاعتقال. في هذه الحالة لا تستطيع المحكمة إلا أن تصدّق وتنصاع لرواية سلطات التحقيق وتمدد اعتقال المتهم لفترات طويلة.
نهايةً؛ إخفاء، وليس اعتقال: كل واحدة من الإجراءات والممارسات المعروضة أعلاه تشكّل بحد ذاتها مسًا خطيرًا بحقوق المعتقل. والأسوأ من هذا كله أن يتم تطبيق هذه الممارسات كلها معًا وفي الوقت ذاته. هذا الدمج بين هذه الإجراءات يحوّل الاعتقال إلى اعتقال سريّ يطابق إخفاء المعتقلين المتبعة في أنظمة ظلاميّة. هذه بالأساس أداة ترهيب وترويع وليست وسائل تحقيق، وعلى إسرائيل أن توقف هذه الممارسات فورًا ونهائيًا.