مشروع المئة مصطلح: نقدٌ رولسيّ
إن سلب الاعتراف بثقافة الانسان الجماعيّة هو مسٌ بمحيط الإمكانيّات التي تقرر مشروع حياة هذا الإنسان
يوآف بيليد[1] | مجلة عدالة الألكترونية، العدد 27، تموز – آب 2006
"مشروع المئة مصطلح، في التراث، الصهيونية والديمقراطية" هو مشروع جرى إعداده في وزارة التعليم حين تولّتها ليمور ليفنات في العام 2005، وهو مخصّص لطلاب الصفوف السابعة، الثامنة والتاسعة في المدارس اليهودية والعربية والدرزية، ومن الوارد الافتراض بأنّه مشروع سينتهي به المطاف في مزبلة التّاريخ، أسوة بتقرير دوفرات، وهو إنجاز فاخر آخر لنفس تلك السّلطة التربوية. مع ذلك، فإنّ مشروع المئة مصطلح يجسّد، بصورة فظّة، رؤية تربوية ضاربة الجذور، لن تغرب عن العالم مع غروب السّلطة التي أنجبتها. صحيح أنّ ليمور ليفنات لن تتمتّع بدور تربويّ في حكومة إيهود أولمرت، لكنّ الجهاز البيروقراطي الذي أعدّ ذلك المشروع في وزارة التعليم، لا يزال قابعًا في مكانه. ويجدر بنا أن نتذكّر أنّ مَن طبّقت سياسة ليفنات في الوزارة، رونيت تيروش، باتت اليوم نائبة كنيست مركزية ضمن كتلة "كاديما"، وهي تتطلّع نحو تولّي وظيفة تنفيذيّة في مجال التربية والتعليم.
يتألّف "مشروع المئة مصطلح" من ثلاثة أبواب: "الديمقراطيّة"، وهو مشترك لجميع المدارس؛ "الصهيونيّة"، وهو مشترك أيضًا لجميع المدارس، اللهم سوى وجود فروق طفيفة بين المدارس العربية واليهودية؛ وأخيرًا باب "التراث" الذي جاء بصيغتين مختلفتين بين المدارس العربية واليهودية. تغطّي المصطلحات المعدّة للمدارس اليهودية ضمن باب "التراث"، وبشكل شامل، التراث الديني، الثقافي والتاريخي للشعب اليهودي. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ باب "الصهيونيّة" يتطرّق بدوره إلى التراث اليهودي. في المقابل، فإنّ مصطلحات "التراث" المخصّصة لطلاب المدارس العربية، تكاد لا تتطرّق تقريبًا سوى إلى التراث الديني للطلاب، والذي يختلف لدى المسلمين عنه لدى المسيحيين. وكذلك، حملت القائمة أسماء ثلاث شخصيّات، وجميعها تعود إلى القرون الوسطى. أي، يُفترض بالطلاب الخروج بانطباع مفاده بأنّه لا يوجد لدى العرب تراث تاريخيّ أو ثقافيّ مشترك، منذ القرون الوسطى على الأقلّ. وبطبيعة الحال، حين يكون الحديث عن الشّعب العربي الفلسطيني، فليس هناك تراث كهذا إطلاقًا.
تنطوي هذه المحاولة على بلاغ خطير المغزى للطلاب العرب، وقد جرى التعبير عنه بوضوح ضمن رسالة جوابية من ليفنات إلى المحامية غدير نقولا من عدالة بتاريخ 29 آذار 2005 كرد على رسالة المحامية نقولا من يوم 7 مارس 2005 , اللتي ناقش بها عدالة الطابع التمييزي لمشروع المصطلحات المائة وكونه ينتهك حق الطلاب العرب بالكرامة كما طالب بتجميد تطبيق المشروع فورًا. ففي رسالتها، التي لم تخلُ من أخطاء لغوية مُحرجة، تؤكّد ليفنات التي تولت وزارة التعليم في حينه، أنه "فقط من يعي ماضيه، تراثه وثقافته، في وسعه فهم العلاقة القوية القائمة بين الشعب والبلاد، وحقه في بناء ذاته ومؤسّساته في هذا المكان". أي أنه عبر منع الطلاب العرب من التعرّف على ماضيهم، تراثهم وثقافتهم – وهي ماضٍ وتراثٍ وثقافة عربية - فلسطينية – يتمّ سلبهم القدرة على فهم العلاقة بين شعبهم وبلادهم والاعتراف بحقّهم في بناء ذاتهم ومؤسّساتهم في هذا المكان.
وهكذا، ففي حين يُسلب حق الطلاب العرب في التعرّف على تراثهم، يتعرّف الطلاب اليهود على تراثهم الديني، الثقافي والقومي عبر قائمة مصطلحات باب "التراث" وباب "الصهيونية"، أيضًا. هذا التمييز يمسّ، بصورة خطيرة، بمبدأ المساواة، كما يتجلّى الأمر بوضوح في رسالة وزيرة التّعليم المذكورة:
"المشروع.. يؤكّد الخيط الرابط بين التراث اليهودي وبين العودة الى صهيون والعيش في دولة ديمقراطية وفقًا للتراث اليهودي.
"والأقليات التي تتعلم عن تراثها الخاص، تتعلم أيضًا عن العلاقة الوطيدة القائمة بين شعب إسرائيل وبين بلاده، كمواطنين متساوي الحقوق في دولة إسرائيل.
"الهدف من هذا التعليم هو تقوية الرابط بين الطالب اليهودي وبين بلاده، وغرس الفخر القومي والمدني لديه. أما بخصوص الطالب ابن الأقليّات، فهناك بلاغ المساواة في الحقوق وكرامة الإنسان في دولة يهودية وديمقراطية".
كما أسلفنا، فإن الانعدام الفظ للمساواة في الأهداف التربوية المعلنة هنا، والتي تتجسّد أيضًا في "مشروع المئة مصطلح"، لا يحمل للطلاب العرب "بلاغ المساواة في الحقوق وكرامة الإنسان"، بل يحمل بلاغًا من التمييز وغياب الاحترام لهم كأناس عرب.
الكرامة، الكرامة الذاتية، المساواة والحرية
وفقًا لـ جون رولس، الفيلسوف الليبرالي الأبرز في النصف الثاني من القرن العشرين، فإن الكرامة الذاتية هي الشرط الأكثر أسبقية، ضرورة وأساسية لتمكّن الإنسان من بلورة مشروع حياة عقلاني لنفسه، وإخراجه الى حيّز التنفيذ. أي أن الكرامة الذاتية هي الشرط الأكثر أساسية لأن يكون الإنسان مخلوقًا حرًا. ولهذا، فإن رولس يشير إلى الكرامة الذاتية بوصفها "الخير الأوّلي" الأكثر أهميّة. من جهة أخرى، فالكرامة الذاتية هي، أيضًا، الشرط الضروري لتمكّن الإنسان من التعاطي مع الآخرين باحترام: "الاحتمال الأكبر هو أنه من شأن من يشعرون بكرامتهم الذاتية، أن يحترموا الآخرين، وبالعكس"[2]. ففي غياب الكرامة الذاتية قد ينشأ الحسد – وهو شعور مدمّر، غير عقلاني، يؤدّي بالإنسان إلى أن يكون مستعدًّا للتضرّر، شرط أن يتضرّر أيضًا الآخرون ممَن لديهم وضع اجتماعيّ أفضل منه. وحسب رولس، فإن الشعور بالحسد في مجتمع يقوم على انعدام المساواة الاقتصادية، يشكّل الخطر الملموس الأكبر على الاستقرار الاجتماعيّ.
يؤكّد رولس أنه في المجتمعات القائمة على انعدام المساواة الاقتصادية، بالذات، تصبح المساواة في المكانة السياسية للمواطنين الشرطَ الضروري لتوفّر الكرامة الذاتية: "في مجتمع سليم.. الكرامة الذاتية مضمونة عبر الالتزام العلني بمكانة مدنية متساوية للجميع؛ ويظل توزيع الوسائل الاقتصادية (في المقابل) خاضعًا للترتيب الذاتي وفقًا لفكرة العدالة الإجرائيّة المجردة"[3]. فالمساواة السياسية التي تتجسّد في الحفاظ المشدّد والكوني على الحريات الليبرالية للفرد، تشكّل شرطًا ضروريًا لتطوّر الكرامة الذاتية، ذلك أن القدرة على تطوير الكرامة الذاتية منوطة بتلقّي توجّه محترِم من قبل الآخرين. أمّا الشّرط المركزيّ الإضافيّ المرتبط بالتوجّه المحترِم من قبل الآخرين، فهو إمكانية وجود أفكار مختلفة ومتنافسة بشأن "الخير"؛ بكلمات أخرى: غياب فكرة احتكارية واحدة بشأن "الخير" في المجتمع: "الديمقراطية في تقدير الواحد لأهداف الآخر، هي الأساس للكرامة الذاتية في مجتمع سليم"[4].
الكرامة الذاتية والتعدّدية الثقافيّة
لقد توسّع ويل كيمليكا (ومفكّرون آخرون بما في ذلك يعيل تمير وزيرة التربية الحالية) في تقييم رولس لأهمية وجود أفكار شخصية مختلفة حول الخير في المجتمع، باتجاه سياق العلاقات بين مجموعات إثنية مختلفة في مجتمعات متعدّدة الثقافات.
ويؤكّد كيمليكا، أسوةً برولس، على أنّ الفرد لا يقرّر مشروع حياته من دون خلفية مسبّقة، بل إنه يعتمد على نماذج وأنماط حياة من سبقوه. وهكذا، فليس بمقدور الفرد أن يبلور قراره حول كيفية إدارة حياته وسط فراغ اجتماعيّ أو ثقافيّ. فمحيط الإمكانيّات التي يأخذها بالاعتبار منخرط في تراثه الثقافي، أي في أنماط الحياة أو الأمثولات التي وُلد إليها، والتي تحدّد، إلى حدّ بعيد، شعوره بكينونته. بناءً على ذلك، كما يدّعي كيمليكا، فإن الإنسان يجب أن يكون جزءًا من "ثقافة مجتمعية" (societal culture) حتى يكتسب الأدوات الضرورية لممارسة الخيار الحقيقي، كالكرامة الذاتية، انتقاء ذي معنى للخيارات المختلفة وطُرق العيش , فهم للتاريخ، المقدرة الذاتية والهوية.
في حال تعرّض التراث الثقافي وفكرة الخير لدى الأقليّة لاستهتار أو إقصاء نحو الهامش، من خلال فرض تعريف طاغٍ وحصري للخير الاجتماعي؛ وفي حال جرى منع أبناء الأقلية من الانكشاف على نماذج السلوك، المعايير والقيم الثقافية والمشاركة في الخير الاجتماعي، فإنّ قدرتهم على تحقيق الأوتونوميا الفردية والقيام بمشاريع حياة عقلانية قد تتضرّر بشكل خطير. وهكذا، فإنّ "احترام الأوتونوميا (الفردية) لأبناء ثقافات الأقليّة يوجِب احترام بنيتهم الثقافيّة".[5]
تتطرّق ادّعاءات كيمليكا المذكورة، كما يؤكّد، بقوّة أشد إلى مجموعات الأقليات الأصلانية، المختلفة عن مجموعات المهاجرين. خلافًا للمهاجرين، فإنّ المجموعات الأصلانية التي يسمّيها كيمليكا "أقليّات قومية" ومن المتعارف عليه وصفها بـ"أقليّات الوطن"، لم تتحوّل إلى أقليّات نتيجة لقرار حرّ بالهجرة والاندماج في ثقافة جديدة. بل إنّها تحوّلت إلى أقليّات خلافًا لإرادتها، نتيجةً لظروف تاريخيّة فُرضت عليها. ومن وجهة نظر هذه المجموعات، فإنّ ثقافة الأغلبيّة ليست غريبة عنها في أحيان كثيرة فقط، بل إنّها معادية لها أيضًا، وروايتها التاريخيّة تتناقض مع رواية هذه المجموعات. في مثل هذه الحالات، يشكّل فرض الرواية التاريخيّة للأغلبيّة على الأقليّة، مسًا خطيرًا إضافيًا، يتجاوز المساس المنوط، برأي كيمليكا (ورولس)، بسلب الحقّ في سياق ثقافيّ مؤازر.
الخلاصة
إنّ "مشروع المئة مصطلح" يمسّ بمبادئ العدل التي وضعها رولس وطبّقها كيمليكا على المجتمعات متعدّدة الثقافات، بصورتين اثنتين: فهو يتجاهل مبدأ المساواة، ويمنع الطلاب في المدارس العربية من التعرّف على تراثهم وبالتالي تطوير كرامتهم الذاتية.
وفقًا لقانون أساس: كرامة الإنسان وحرّيّته، فإنّ "لكلّ إنسان الحقّ في الدّفاع عن حياته، جسده وكرامته"، وبالنّسبة الى رولس، فإنّ كرامة الإنسان تعني، بادئ ذي بدء، كرامته الذاتيّة؛ كرامة الإنسان الذاتيّة تتعرّض للسّلب حين لا يتمّ احترام فكرة الخير لديه ولا الدّفاع عنها من قبل المجتمع. وبحسب ويل كيمليكا، الأبرز بين مفكّري التعدّدية الثقافيّة الليبرالية، فإنّ فكرة الخير ومشروع حياة الإنسان مضمّنان، بالضرورة، في تراثه الثقافي الجماعيّ. وهكذا، فإنّ سلب إمكانيّة الاعتراف بثقافته الجماعيّة وتطويرها، يعني المسّ، بشكل بالغ، بكرامة الإنسان.
يسعى برنامج التّعليم المخصّص للطلاب العرب، كما ينعكس من خلال مصطلحات "التراث" العربي ضمن "مشروع المئة مصطلح"، إلى سلبهم إمكانيّة التعرّف على تراثهم الثّقافي القوميّ كعرب فلسطينيين. ولن يكون بمقدور الطلاب العرب، من دون التعرّف على هذا التراث، كما أنّه ليس بمقدورهم الآن أيضًا، تطوير كرامتهم الذاتية، وهكذا يتمّ المسّ بحقّهم في الكرامة. وبما أنّ الطلاب اليهود يحظون بتعلّم تراثهم اليهودي بمدى واسع (والطلاب العرب أيضًا ملزمون بتعلّم التراث الثقافي اليهودي)، فإنّ منع تلك الإمكانيّة عن الطلاب العرب يشكّل، أيضًا، مسًا بالغًا بمبدأ المساواة، وهو مبدأ أساس يجب على الدّولة الدفاع عنه، حتى في ظلّ غياب قانون أساس صريح.
وفيما يتجاوز الاعتبارات القانونية والأخلاقية، هناك مجال للتشكيك في الحكمة السياسيّة التي تقف من وراء السياسة التعليمية التمييزية المتجسّدة في "مشروع المئة مصطلح". فهل التأكيدُ على التراث الدينيّ المختلف للطلاب المسلمين والمسيحيين وإنكار تراثهم القوميّ العلمانيّ المشترك، يخدم مصلحة دولة إسرائيل بوجود مجتمع مستقرّ وهادئ (غنيّ عن القول: ديمقراطي، متساوٍ وعادل سياسيًا)؟ هل الحضّ على المبادئ الدينيّة وتفضيلها على القومية في التراث الثقافي العربي يتساوق مع قيم الدولة كدولة يهودية وديمقراطيّة؟ أليس من الأفضل، من جانب الدولة، أن يتعلّم الطلاب العرب تراثهم الثقافيّ القوميّ، الذي لا يمكن إخفاؤه عنهم، بشكل مدروس ومسؤول في المؤسّسات التعليمية الرسمية، بدلاً من أن يتعلّموه من مصادر أخرى لا تقع مصلحة إسرائيل، بالضرورة، في رأس سلّم اهتماماتها؟ هل تغييب الكرامة الذاتية لدى العرب مواطني إسرائيل، والذي قد يؤدّي الى تطوّر ما أطلق عليه رولس اسم "الحسد"، يخدم مصالح الدولة؟
لمّا كانت الإجابة عن هذه الأسئلة مفهومة ضمنًا، فمن الأجدر، باعتقادي، أن تقوم وزارة التربية والتّعليم بقيادة الوزيرة الجديدة باستبدال مصطلحات "التراث" المتعلّقة بالتّعليم العربيّ بقائمة مصطلحات جديدة، يكتبها مؤرّخون، مثقّفون ومختصّون تربويّون عرب[6]. إنّ من شأن قائمة جديدة كهذه، تعكس بإخلاصٍ التراث الثقافي لدى مواطني إسرائيل العرب، أن تساعد في تطوير الكرامة الذاتيّة للطلاب العرب، وبالتالي تطوير توجّههم المحترِم تجاه المختلفين عنهم في المجتمع. ومن الجدير، أيضًا، ومثلما يُلزم الطلاب العرب بتعلّم مصطلحات "الصهيونية"، وهي مصطلحات تابعة للتراث اليهوديّ، أن يُلزم الطلاب اليهود بتعلّم مصطلحات "التراث" العربيّة. وهو أمر لا يوجبه مبدأ المساواة فحسب، بل أيضًا الحاجة في تعزيز التفاهم والاحترام المتبادل بين المجموعتين الثقافيّتين اللتين تؤلّفان المجتمع الإسرائيلي.
[1] استاذ مساعد في قسم العلوم السياسية , جامعة تل ابيب.
[2] John Rawls, A Theory of Justice,
[3] المصدر نفسه، ص 545.
[4] المصدر نفسه، ص 442. للتوسّع، يُنظر: Jose Brunner and Yoav Peled, “Rawls on Respect and Self-Respect: An Israeli Perspective,” Political Studies, Vol. 44, No. 2, 1996, pp. 287-302.
[5] Will Kymlicka, Liberalism, Community and Culture,
للتوسّع، يُنظر: جوزيه برونر ويوآف بيليد، "عن الأوتونوميا، المقدرة والديمقراطيّة: نقد التعدّدية الثقافية الليبرالية"، في: "التعدّدية الثقافية في دولة ديمقراطية ويهودية؛ كتاب لذكرى أريئيل روزن- تسفي"، تحرير آفي ساغي ورونين شمير، تل أبيب: رموت، 1998، ص 107-131 (بالعبرية).
[6] يُنظر، على سبيل المثال: أمل جمّال، معجم المواطنة لطلاب المدارس العربيّة في إسرائيل، القدس، مركز جيلو، 2005 (بالعبرية)