حول التمييز المؤسّسي في تطبيق قرارات المحكمة العليا
عدم تطبيق قرارات المحكمة يكرّس المكانة المتدنية للعرب أصلاً في الجهاز القضائي، السياسي، المدني، الاجتماعي والاقتصادي.
سوسن زهر [1]| مجلة عدالة الإلكترونيّة، العدد 63، آب 2009
يقع مبدأ سلطة القانون في أساس واجب تطبيق قرارات السلطة القضائية، وبموجبه، بعد إصدار قرار حكم، يصبح من الواجب تطبيقه. الفكرة الأساسية من خلف تطبيق مبدأ سلطة القانون هي أنّ الجميع متساوون وفقًا للقانون وأمامه. الوضع في إسرائيل هو خلاف ذلك، عمليًا. هنا، طالما كان قرار الحكم متعلقًا بحقوق المواطنين العرب، فإن قرارات الحكم شيء وتطبيقها شيء آخر. في هذه الحالات، تطرح الدولة ذرائع متنوّعة تتعلّق خصوصًا بالمصاعب الإدارية وتلك الخاصة بالميزانيات، والتي تستلزم تأجيل تنفيذ قرارات الحكم. لكنّ التمعّن في تسويغات الدولة يبيّن أنّ عدم تطبيق قرارات الحكم هذه، يشكّل حلقة إضافية في التمييز المؤسّسي للدولة ضد المواطنين العرب، والذي يكرّس مكانتهم المتدنية أصلاً في الجهاز القضائي، السياسي، المدني، الاجتماعي والاقتصادي.
في هذه المقالة القصيرة أودّ التطرّق أوّلاً إلى قراري حكم صادرين عن المحكمة العليا في مسائل دستورية في مجال التعليم وهما مرتبطان بالمواطنين العرب. تمّ بحث هذين القرارين على مدار سنوات طويلة أمام المحكمة العليا، وفي نهاية الأمر فُرض على الدولة واجب القضاء على التمييز اللاغي والقاسي ضد المواطنين العرب، كل في مجاله وذلك حتى تاريخ 1.9.09. ولكنّ هذين القرارين ينضمّان فعليًّا إلى قرارات الحكم الكثيرة التي سبقتهما، والتي بقيت حبرًا على ورق ولم تقم الدولة بتطبيقها.
قرار الحكم في قضية لجنة المتابعة العليا لشؤون المواطنين العرب في إسرائيل ضد رئيس حكومة إسرائيل، صدر خلال شهر شباط عام 2006، وذلك بعد مرور ثماني سنوات كان الملف فيها عالقًا أمام المحكمة العليا[2]. لقد هاجم هذا الالتماس دستورية قرار الحكومة رقم 2288 من عام 2002 الذي صنّف بلدات كمناطق أفضلية قومية. البلدات التي تم تصنيفها بهذا الشكل، كان لها الحق في تلقي امتيازات مختلفة وكثيرة في مجال التعليم. لكن من بين 553 بلدة، لم يكن هناك سوى 4 بلدات عربية فقط. في القرار الذي صدر بالإجماع في هيئة مؤلّفة من 7 قضاة، تقرّر أن قرار الحكومة المذكور ليس قانونيًا ويجب إلغاؤه وذلك لسببين: أوّلاً، القرار يُميّز بشكل خطير ضد البلدات العربية والقصورات الدستورية التي يتضمّنها هي من الفظاظة بحيث أنه لا يمكن للقرار أن يظل على حاله ومصيره الإلغاء. ثانيًا، يشكّل قرار الحكومة خروجًا عن الصلاحية المتبقّية الممنوحة لها، بحيث أن ترتيب مسألة ذات تداعيات متعلقة بالميزانية بهذا الاتساع، كان يجب تسويته وترسيخه من خلال تشريع أساسيّ. على الرغم من إعلان إلغاء القرار فقد أرجأت المحكمة علاج الإلغاء لسنة كاملة، أي حتى تاريخ 26.2.2007، وبذلك قامت بإعطاء الدولة فترة معقولة وكافية من أجل الاستعداد لتطبيق قرار الحكم. لكن، على الرغم من قرار المحكمة لم تحدّد قائمة جديدة لتصنيف البلدات كمناطق أفضلية قومية. أمّا تسويغات الدولة لهذا القصور فقد استندت إلى المصاعب المتعلقة بالميزانية من جهة، وإلى رفض تقليص ميزانيات البلدات اليهودية التي تمتّعت بتلقّي امتيازات وفقًا للقرار، ومنحها للبلدات العربية، من جهة ثانية، وخلاف ذلك، بموجب ادعاء الدولة، سينشأ تمييز ضد نفس البلدات اليهودية التي ستضطرّ إلى التنازل عن الميزانيات التي اعتادت أن تتلقّاها.
اليوم، وبعد مرور ثلاث سنوات ونصف السنة على موعد إصدار قرار الحكم، ليس فقط أن القرار لم يطبق ولا توجد قائمة جديدة للبلدات المعرّفة كـ"مناطق أفضلية قومية"، بل إن قانون مناطق الأفضلية الذي تمّت المصادقة عليه مؤخّرًا في إطار قانون التسويات للسنة المالية 2009-2010[3] شدّد على أن مفعول القانون المذكور لا يسري على قرارات الحكومة التي لم تتخذ بموجب هذا القانون وعلى أن قرارات الحكومة المذكورة، بما في ذلك القرار رقم 2288، ينتهي مفعولها بعد مرور سنتين ونصف السنة من تاريخ بدء سريان مفعول القانون، أي في شهر كانون الثاني 2012. كذلك، يبيّن التمعن في نص قانون مناطق الأفضلية القومية أن القانون لا يستوفي مقاييس التسويات الرئيسية. فالقانون يمنح الحكومة معيارًا جارفًا في تصنيف بلدات كمناطق أفضلية قومية وكذلك في حقها بتلقي امتيازات في مجالات مختلفة. كما أن القانون لا يوفر تعريفًا لـ"مناطق أفضلية قومية"، وهو يخلو من قائمة ببلدات ومناطق مصنّفة كمناطق أفضلية قومية. فالقانون يضع سلسلة من "المعايير" الغائمة ويبقي للحكومة إمكانية لاستخدامها، لكنه لا يلزمها بذلك. علاوة على ذلك، فالقانون يتيح للحكومة منح امتيازات معينة لبلدة ما وامتيازات أخرى لبلدة أخرى، ويسمح لها بمنح الامتيازات لبلدة ما مقابل فترة معينة ولبلدة أخرى مقابل فترة أخرى. عمليًا، لا يحدد القانون مقاييس واضحة، عينية وحاسمة لتفعيل الاعتبار الجارف الذي منحه للدولة، وبذلك فإن القانون يخوّل الدولة القيام بكل ما يحلو لها في سياق توزيع امتيازات للبلدات في كثير من المجالات. إن القانون يخوّل الدولة، أيضًا، مواصلة التمييز ضد البلدات العربية في كل ما يتعلق بتوزيع الامتيازات والميزانيات.
في قرار حكم آخر، أبو سبيلة ضد وزارة التعليم[4] تم بحث التماس أهالي الطلاب سكان قرية أبو تلول البدوية في النقب، من أجل اقامة مدرسة ثانوية لتخدم طلاب القرية. ففي غياب وجود مدرسة ثانوية في القرية، يضطر طلاب القرية إلى السفر لمسافة بعيدة من أجل الوصول إلى مدارس ثانوية في قرى أخرى مثل تلك التي في بلدتي شقيب السلام وعرعرة – النقب. إن عدم وجود مدرسة في منطقة قرية أبو تلول تؤدي إلى نسب عالية من التسرّب، والتي وصلت حتى نحو 77% من الطلاب، غالبيتهنّ من الطالبات اللواتي يحظر عليهن، بفعل الضغوطات الاجتماعية السفر بواسطة مواصلات مختلطة خارج القرية، وبذلك يُجبرنَ على التسرّب من التعليم من دون أن يكملنَ التعليم الثانوي.
صدر قرار حكم المحكمة العليا خلال شهر كانون الثاني 2007 ونصّ على إقامة مدرسة مطلع السنة الدراسية 2009-2010، أي في تاريخ 1.9.09. ولكن حتى كتابة هذه السطور لم يتمّ تطبيق قرار الحكم. وتبرّر الدولة هذا التلكؤ في فتح المدرسة بعدم استكمال إجراءات التخطيط الخاصة بقرية أبو تلول التي اعترفت بها الدولة منذ عام 2005. عمليًا، لا يفترض بإكمال إجراءات التخطيط في القرية أن يؤثر على فتح المدرسة لأنّ هناك بدائل أخرى تمكّن من فتحها. فمثلا كان في الإمكان الاستناد إلى الخارطة الهيكلية اللوائية 14/4 (تعديل رقم 40) التي تمكّن من إقامة مبانٍ متحرّكة ومؤقّتة لغرض توفير الحاجات الحيوية، بما فيها الحاجات الخاصة بمجال التعليم.
الحالتان أعلاه تنضمّان إلى سلسلة طويلة من قرارات الحكم التي أصدرتها المحكمة العليا في مجال الحقوق الاجتماعية-الاقتصادية والتي لم تطبّقها الدولة. فهكذا مثلا، قرار المحكمة العليا تحقيق مساواة في تخصيص الميزانيات للمقابر الإسلامية والمسيحية، حيث لم يطبق قرار الحكم بالمرة؛[5] قرار المحكمة العليا القيام بتخصيص تدريجيّ من ميزانية التعليم لغرض تطبيق برنامج "شاحر" في البلدات العربية وذلك في خلال خمس سنوات حيث أنّ تخصيص الميزانية لم يطبّق فعليًا؛[6] قرار المحكمة العليا تفعيل برنامج "أوفك" لمعالجة نسب البطالة في البلدات العربية أيضًا، حيث تم إلغاء البرنامج بعد إصدار القرار؛[7] قرار المحكمة العليا تطبيق برنامج ترميم الأحياء في البلدات العربية، حيث تم فعليًّا تقليص قائمة البلدات التي يفعّل فيها البرنامج بشكل جديّ ولم يتمّ توسيع تطبيقه ليشمل البلدات العربية؛[8] قرار المحكمة العليا تخصيص ملاكات لتشغيل مراقبي دوام منتظم في القرى البدوية في النقب، حيث لم يتم تخصيص هذه الملاكات فعليًا[9]، كذلك الأمر بالنسبة لقرار المحكمة العليا تخصيص ملاكات لتشغيل أخصائيين نفسيين تربويين في المدارس في القرى غير المعترف بها في النقب؛[10] قرار الحكم الذي صدر في أعقاب التزام الدولة بتنظيم طريق الوصول إلى المدرسة الابتدائية في القرية البدوية الفرعة في النقب، حيث لم يتم فعليًا تنظيم طريق الوصول إلى المدرسة بعد[11] ، وغيرها.
إنّ عدم تطبيق قرارات الحكم التي تتعلّق بحقوق المواطنين العرب الاجتماعية والاقتصادية، لا يرتبط بمصاعب في الإدارة والميزانية. هناك قرارات حكم تتعلّق بحقوق أفراد ولا يتطلّب تطبيقها أية إعادة توزيع مجدّدة للميزانية. هكذا كانت الحال في قرار الحكم في قضية عادل قعدان،[12] حيث أمرت المحكمة بتخصيص قسيمة أرض في بلدة كتسير لعائلة قعدان، لكن الأمر استغرق الدولة عشر سنوات لتطبيق القرار، وذلك بعد أن عادت عائلة قعدان إلى المحكمة العليا بعدد من الطلبات لإلزام الدولة بتطبيق قرار الحكم. إن تطبيق قرارات الحكم المتعلقة بحقوق المواطنين العرب يشكل ظاهرة متعمدة ومنهجية، لا يتم بموجبها تطبيق قرارات الحكم تلك. إن العبرة التي يمكن استخلاصها من هذه الظاهرة المتعمدة، هي أن مبدأ سلطة القانون مستبعد طالما أن مواضيع قرارات الحكم هي المواطنون العرب، لأن المواطنين العرب، بموجب موقف الدولة، ليسوا متساوين أمام القانون. وبالفعل، فقرارات الحكم أعلاه تقع في مجال المساواة المدنية وهي لا تمسّ مسائل أيديولوجية من شأنها إثارة خلافات حول موضوع تعريف الدولة كدولة يهودية. لكن، لا يمكن في الواقع القائم فصل مسألة المساواة المدنية للمواطنين العرب عن مساواتهم القومية، وكذلك لا يمكن فصل ظاهرة عدم تطبيق قرارات الحكم في المسائل المذكورة أعلاه عن رؤية الدولة نحو المواطنين العرب وهي أنّهم يشكّلون تهديدًا للدولة. هذا التوجه نحو المواطنين العرب حظي بغطاء وببروز شديدين في قرار الحكم الذي صدر مؤخرًا عن المحكمة العليا والذي تناول قانونية قانون المواطنة والدخول إلى إسرائيل، أمر الساعة، 2003، والذي حظر لمّ شمل عائلات بين المواطنين العرب وبين أبناء شعبهم، سكان المناطق المحتلة، بذريعة أنهم يشكلون تهديدًا على وجود الدولة.[13] إنّ هذا القرار يعكس، أيضًا، رؤية سلطات الحكم المختلفة نحو المواطنين العرب. في جميع الأحوال، حين تضفي الدولة شرعية على التمييز ضد المواطنين العرب على الصعيد القومي، مثل المكانة المتدنية للغة العربية، عدم الاعتراف بالتراث والتاريخ الفلسطينيين وحتى حظر ذكر النكبة، والتمييز ضدّهم في تخصيص الأراضي على أساس انتمائهم القومي، فإن الدولة تمنح بذلك تبريرًا للتمييز ضدهم على الصعيد المدني.
[1] محامية في عدالة، المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل.
[2] التماس 11163/03 لجنة المتابعة العليا لشؤون المواطنين العرب في إسرائيل ضد رئيس حكومة إسرائيل، (قرار حكم في تاريخ 27.2.2006، لم ينشر بعد).
[3] ينظر الفصل 26 (البنود 150 حتى 162) من قانون التنجيع الاقتصادي (تعديلات تشريع لتطبيق الخطة الاقتصادية للسنتين 2009 و 2010) 2009 وعنوانه "مناطق الأفضلية القومية".
[4] التماس 2848/05 أبو سبيلة ضد وزارة التعليم (قرار حكم في تاريخ 23.1.07، لم يُنشر بعد).
[5] التماس 1113/99 عدالة ضد وزير الأديان، قرارات حكم اسرائيلية 54(2) 164 (2000).
[6] التماس 2814/97 لجنة متابعة التعليم العربي في اسرائيل ضد وزارة التعليم قرارات حكم اسرائيلية 54(3) 233 (2000).
[7] التماس 6488/02 اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية في اسرائيل ضد لجنة المدراء العامين للمعالجة العينية في البلدات (قرار حكم بتاريخ 2.6.2004، لم يُنشر بعد).
[8] التماس 727/00 اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية في اسرائيل ضد وزير البناء والاسكان، قرارات حكم اسرائيلية 56(2) 79 (2001).
[9] التماس 6671/03 أبو غنام ضد وزارة التعليم, قرارات حكم اسرائيلية 58(5) 577 (2005).
[10] التماس 4177/04 أبو عبيد ضد وزارة التعليم (قرار بتاريخ 21.6.05).
[11] التماس 6773/05 قبوعة ضد وزارة التعليم (قرار حكم بتاريخ 3.1.2006، لم يُنشر بعد).
[12] التماس 6698/95 قعدان ضد مديرية أراضي اسرائيل, قرارات حكم اسرائيلية 54(1) 258 (2000).
[13] التماس 7052/03 عدالة ضد وزارة الداخلية (قرار حكم في تاريخ 14.5.2006، لم يُنشر بعد).