حقوق ثقافيّة وتعليميّة جماعيّة للعرب في إسرائيل
أماكن العمل التي ظلّت متاحة أمام النساء هي وظائف "نسائيّة"، تبقي لهن متّسعًا من الوقت للمهام المنزليّة
د. سارة أوستسكي-لازار |[1]مجلة عدالة الألكترونية، العدد 30، تشرين ثاني 2006
"إنّ مطالب الوسط العربيّ المختلفة في مجال التعليم، اللغة، الثقافة والدين تتضمّن المطالب بالمساواة على أساس جماعيّ. وكلّما كانت هذه المطالب مرتكزة إلى مطلبهم بالمساواة بالمفهوم المذكور، فهي لم تقبل. لقد تم الاعتراف بالحقّ الأساس في المساواة، في القضاء الإسرائيلي، على أساس حقّ الفرد في المساواة. ولم يعترف به في التشريع أو من قبل المحاكم كحقّ جماعيّ، يُمنح لهذه المجموعة أو تلك خلافًا لأفراد معيّنين فيها".
تقرير لجنة أور، المجلّد أ، ص. 57 (ايلول 2003)
لا خلافَ حول أنّ للمجتمع العربيّ – الفلسطينيّ في دولة إسرائيل ثقافة خاصة به، ولذلك فهو يستحقّ ظروفًا تمكّنه من الحفاظ على هذه الثقافة، رعايتها، تطويرها وتوريثها لأبنائه. واللغة هي محور مركزيّ لكلّ ثقافة، وفي هذا الموضوع، أيضًا، فإنّ الحاجة بادية في ضرورة إقرار مكانة واضحة وغير ملتبسة للغة العربية، ليس لكونها لغة مجموعة واحدة في إسرائيل فحسب، وإنما كلغة الدولة كلّها. وليس استنادًا إلى موروث الانتداب البريطانيّ فحسب، وإنما وفق تشريع إسرائيليّ مُجدّد. إنّ إحدى القنوات المتعارف عليها لنقل الثقافة من جيل إلى آخر هي جهاز التّعليم. وفي نهاية الأمر، فإنّ الفصل بين جهاز التعليم الرسميّ – اليهوديّ وبين جهاز التعليم العربيّ، حتّى وإن كانت له أسباب سياسيّة وكان مصدرها الأساسيّ يكمن في الرغبة في الإقصاء والفصل، قد أدّى إلى نتيجة مرغوب فيها، أيضًا، من ناحية العرب – حقّ جماعيّ فعليّ في توفير التّعليم لأبنائهم بلغتهم. وكذلك، فإنّ قرار تبنّي قوانين الأحوال الشخصيّة الخاصة بالطوائف الدينيّة، موروث الحكم العثمانيّ، هو، عمليًّا، حقّ جماعيّ ممنوح بحكم القانون لأبناء الديانات المختلفة في إسرائيل.
لقد عزّزت قرارات مختلفة اتّخذت في المحكمة العليا، على مدى السنوات، الحقوق الجماعيّة في مجالات الثقافة والتعليم. فمؤخّرًا فقط ألغت المحكمة العليا قرار الحكومة بشأن "مناطق الأفضلية القومية" الخاص بالتعليم، بسبب التمييز الفظّ ضدّ بلدات عربيّة في هذا المجال[2].
أودّ أن أدّعي هنا بأنّه، وعلى الرّغم من الاتساع الذي طرأ، في السنوات الأخيرة، على رقعة النقاش حول الحقوق الجماعية للعرب، وعلى الرّغم من أنّ نوعية النقاش قد تحسّنت، فلم يتوفّر بعد لدى المتناقشين، أكانوا عربًا أم يهودًا، أكاديميين أم سياسيين، خبراء قانون أم علماء اجتماع، فهمٌ وموافقةٌ على الجوهر والتعريف الدقيقين لهذه الحقوق، وعلى الخطوات العمليّة التي يرغبون في اتخاذها، أو التي يُطالبون الدولة بتنفيذها، من أجل تحقيقها. وفي هذه المسألة، ما زالت ثمّة أسئلة مفتوحة كثيرة، تستدعي التوضيح وتحديد مفاهيمها، نظريًّا وعمليًّا. إضافةً إلى ذلك، يجب فحص ما هي الإسقاطات بعيدة المدى للممارسة المتمثّلة بتطبيق الحقوق الجماعيّة على علاقات العرب بالدولة، وعلى مكانتهم فيها وعلى علاقاتهم مع المجموعة اليهوديّة. هل يجري الحديث هنا عن سعي نحو الوصول إلى حكم ذاتيّ كامل في التعليم والثقافة، وإلى مساواة جماعيّة واسعة ضمن إطار الدولة، أم أن الحديث يدور حول الانعزال والانفصال عن الدولة في نهاية المطاف؟
يفسّر قاضي المحكمة العليا (سابقا) يتسحاق زمير المعنى العمليّ للحقّ الجماعي، على النحو التالي: "يحقّ للمجموعة أن تستخدم وترعى اللغة والموروث الخاصين بها ومن شأن ذلك أن يكون منوطًا، أيضًا، بمطالبة السلطة بالمساعدة في حماية الحقّ وتطويره"[3]؛ يعتقد أمل جمّال أنّ "الدولة تستطيع أن تضمّ كلّ مواطنيها وفي الوقت نفسه أن تمنح كلّ مجموعة فيها فرصة متساويةً للتأثير على المناخ العامّ والتعبير عن هويّتها القوميّة والثقافيّة"[4]؛ بينما يؤكد يوسي يونه، الذي يحلل طرح التعددية الثقافية بتوسّع، أنّ "دمج التعددية الثقافية اليبرالية بحيزات جماهيرية منفصلة... يستدعي تمكين كلتا المجموعتين (وفي الأساس مجموعات الأقليّة) من إنشاء حيزات جماهيرية منفصلة تكون فيها أجهزة تعليم مستقلة، بحيث يكون في وسع كلّ مجموعة أن تعتني بتميّزها الثقافي - القومي وتطوّره ما لم يكن هدف بناء هذه الحيزات ترسيخ الامتيازات السياسيّة، الاقتصادية والثقافيّة لإحدى هذه المجموعات"[5].
يصف غرشون غونطوبنيك، في مقال له نشره في كتاب مهمّ ضمّ مجموعة مقالات حول الحقوق الاقتصادية، الاجتماعيّة والثقافيّة في إسرائيل صدر في العام 2005[6]، معضلة التعدّدية الثقافيّة كتحدٍّ كبير للمجتمع الإسرائيليّ، الذي يجب عليه أن يقرّر "ما هو نظام الحكم الملائم الذي يجب تبنّيه من أجل أن تتمكّن المشاريع الثقافيّة الفاعلة فيه من العمل جنبًا إلى جنب بصورة لائقة وبشكل متزامن... مع كلّ النقد الشديد الموجه للطرح الليبرالي، تبقى حقيقة أنّ نظام الحكم الليبرالي نجح بدرجة جدية في إتاحة وجود مشاريع ثقافيّة متزامنة في إطاره، ومن ضمنها مشاريع ثقافيّة ليست ليبرالية على الإطلاق"[7].
ما هي الثقافة الجماعيّة للعرب في إسرائيل؟ إنّها مرسّخة قبل كل شيء في اللغة العربية وفي كلّ ما هو نابع من اللغة: الكتب المقدّسة، الأدب، الشعر، المسرح، السينما، الكلام نفسه وكذلك طيف واسع من الحقول الثقافية من الماضي والحاضر، المرتبطة بالحضارة العربية الواسعة؛ ثانيًا، في الذاكرة الجماعيّة الفلسطينية التي تمّ كبتها من قبل جهاز التعليم الرسميّ، لكنها تنتقل بواسطة وكلاء آخرين ويبدو أنّها تتعزّز مع السنين؛ ثالثًا، في المخزون التاريخيّ الثقافيّ العربي والإسلاميّ، وهو ثريّ وبعمق البحر، لكنه يكاد لا يجد تعبيرًا له في المنظومة الثقافية في إسرائيل.
لكن، بالإضافة إلى كلّ ذلك، لا يجب تجاهل أنّه نشأت لهذه المجموعة المتميّزة، في العقود الستّة الأخيرة، ثقافة إضافية، تختلف وتتميّز عن تلك الخاصة بأبناء شعبها. فبسبب الظروف التاريخية والسياسيّة، التي وإن كانت قد فرضت عليها إلا أنها حقيقة قائمة، فالثقافة العربية في إسرائيل تندمج وتتداخل في الثقافة العبرية الناشئة هنا. فمعظم العرب متمكّنون من خفايا اللغة العبرية كما هي الحال في لغتهم الأمّ، يقرأونها ويكتبونها، يستهلكون الإعلام، الأدب والعلوم بالعبرية، وحتى أنهم يدمجون في لغة التحدّث اليومية بالعربية تعابير عبرية كثيرة. إنّ الثقافة العبرية (وليس بالضرورة اليهودية) أصبحت جزءًا لا يتجزّأ من ثقافتهم، والتأثيرات متبادلة وتتفاعل في الاتجاهين. وفي ما يتجاوز اللغة – نشأ حوار ثقافيّ ونشاط مشترك في مجالات مثل المسرح والموسيقى، مثلاً، لم يكونا ممكنين في بلد آخر. كذلك، فإنّ الحرية والعصرنة أثرتا على الثقافة العربيّة المحليّة، إذ توجد هنا، على الاغلب، صحافة حرّة وإبداع أدبيّ واسع (باستثناء ما كان قائمًا في سنوات الحكم العسكريّ وفي حالات معدودة بعد ذلك، مثل اعتقال الشاعر شفيق حبيب بسبب قصيدة كتبها لـ"أطفال الحجارة").
إنّ التعليم العالي يُكتسب كلّه باللغة العبرية في الجامعات والكليات، وباستثناء دور المعلمين وكلية إسلامية واحدة لا توجد في إسرائيل مؤسّسات عربيّة للتعليم العالي. لا يمكن محو التأثير المباشر لهذا الوضع على المبدعين، الأكاديميين والمرّبين العرب في إسرائيل. إنّ الثقافة التي يحملونها هي ثقافة مختلطة، ثنائيّة اللغة، متعدّدة الأبعاد، تراوح بين الشرق والغرب، بين العربية والعبرية، بين القديم والحديث، وهي متتبعة لما يجري في حلقات ثقافيّة متنوّعة. وبهذا، فهي تصبح ثرية ومثرية وتمنح الأشخاص الذين يحملونها امتيازات شخصيّة وجماعيّة. إنّ هذه الثقافة غير منفصلة البتّة عن المصطلح الآخذ بالتشكّل "الثقافة الإسرائيليّة"، وإنّما هي تشكّل جزءًا لا يتجزّأ منها. ومن الصّعب وصف وضع من العودة إلى الوراء وخلق "غيتو" ثقافيّ عربيّ في داخل إسرائيل، يضع جانبًا هذه التأثيرات، إلا إذا كان الهدف النهائيّ هو الانفصال التامّ عن الدولة وعن المجتمع الإسرائيلي وخلق كيان جديد، أو الانضمام إلى الدولة الفلسطينيّة العتيدة. غير أنّ برامج الأحزاب السياسيّة وكذلك معطيات استطلاعات الرأي التي تُجرى كلّ الوقت في أوساط العرب في إسرائيل تظهر أنّ توجّهًا كهذا لا يحظى بتأييد.
ولذلك، يمكن البحث عن منحى عمل آخر، من مسارين: من جهة أولى، على الدولة أن تقوم بواجبها الذي لا خلاف حوله بالاعتراف بالثقافة العربيّة بمفهومها الأوسع كثقافة ذات قيمة، تستحقّ الدعم الماديّ والأخلاقيّ معًا. إنّ تخصيص ميزانيات لمؤسّسات ثقافية عربية، تشجيع الإبداع والمبدعين العرب والاعتراف الحقيقيّ باللغة العربيّة إلى جانب العبريّة في الحيّز الجماهيري الإسرائيلي العام، بأنّها اللغة الأولى للمواطنين العرب، هي كلّها ضرورات لازمة. إنّ إقامة أكاديميّة للغة العربيّة وإنشاء قناة تلفزيونية بالعربيّة في مقدورهما أن يكونا بمثابة خطوتين مهمّتين في هذا الاتجاه. لكنّ ذلك غير كافٍ. فإنني اتخيل وضع تتحوّل فيه الثقافة الإسرائيلية إلى حيز مشترك حقيقيّ، يتحدّث فيه الجميع باللغتين ويخلقون تعاونًا ثقافيًّا مؤلفًا من فسيفساء متعدّد الألوان من الثقافات. فنحو نصف يهود إسرائيل هم من حاملي الثقافة العربيّة، حتى لو كان كثيرون منهم لا يعترفون بذلك بملء الفم. فهم وثقافتهم أيضًا قمعوا في السنوات الأولى للدولة بدعوى "بوتقة الصهر" والإسرائيليّة وليدة البلاد - الأشكنازية. إنّ تأثيرات الثقافة العربية أصبحت ملحوظة في الثقافة العبريّة إلى حدّ الذوبان الحقيقيّ – في التّصميم المعماريّ، الموسيقى، الرقص، ثقافة الأكل، اللباس، الفنّ التشكيلي وغيرها الكثير. إنّ تعزيز العلاقات الثقافيّة المتبادلة وحتى التوجيه من الأعلى نحو التماس، الاحتكاك، التعلّم المتبادل والإبداع الثقافيّ المشترك المتعلّق بالمكان والحيّز اللذين نعيش فيهما ستجعلنا جميعًا أثرياء وحضاريين أكثر. ثمّة خطوة ضرورية نابعة عن ذلك وهي تدريس اللغة العربية كلغة إلزاميّة في المدارس العبريّة، على مستوى عالٍ ومن خلال خلق نُظم مكافأة للمعلّمين والطلاب بغية التخصّص في دراسة الثقافة العربيّة. إنّ هناك تناقضًا داخليًّا بين التعبير الشامل "ثقافة" وبين الانغلاق والانعزال الإثني والقوميّ. إنّ الثقافة بطبيعتها يجب أن تكون طليعيّة وسبّاقةً، وأن تخلق الهويّة المشتركة لكلّ أبناء هذه البلاد.
إنّ المسار الثاني يجب أن يأتي من داخل المجتمع العربيّ نفسه، من مبدعيها وحاملي لواء الثقافة فيها. فبدلاً من الانطواء على أنفسنا يجب أن نشجّعهم على الانطلاق نحو الخارج، والتغلغل إلى أعماق الثقافة الإسرائيليّة وإجبارها على تقبّلهم واستيعابهم. ويمكن من الآن ملاحظة حركة كهذه، في الأساس في السينما والمسرح، لكن ما نأمله هو أن يُسمع المزيد من الفنانين والمبدعين العرب صوتهم المميّز في كل مجالات الثقافة ويعزّزوا، لا بل يقودوا، الحوار، الذي ينتج هو بحدّ ذاته ثقافةً: هل إسرائيل هي دولة أوروبيّة – غربية أم شرقيّة – متوسّطيّة؟ هل تستطيع الثقافة العبرية أن تكون منفصلة عن الفضاء الذي يتمّ إنتاجها فيه وتسترق النظر إلى ما وراء المحيط نحو أمريكا الكبرى، أم أنّه من الطبيعيّ بالنسبة لها أن تعبّر عن المكان الجغرافيّ والمحسوس الذي تتشكّل فيه؟ إنّني أعتقد أنه، وفي هذه النقطة بالذات، توجد للمبدعين العرب مقولة واضحة وثاقبة وأنّ في إمكانهم التأثير على الروح المحليّة، إلى جانب الإصغاء لما يجري في القرية العالميّة برمّتها. فاليوم، تعتبر وسائل الإعلام المتاحة أمام الجميع وكيلات التثقيف الفورية، ومن غير الممكن الحيلولة دون دخول ثقافات العالم إلى داخل صالون كل واحد وواحدة منّا. لذلك، ففي اعتقادي إنّ التمسّك بـ"حقوق جماعية" في الثقافة سيؤدّي إلى تضييقها وتقليصها، ولن يكون بالضرورة في صالحها.
وننتقل من هنا إلى جهاز التعليم. إنّ الحق في التعليم يشمل ثلاثة حقوق أساسيّة: الحقّ في تلقي التعليم، الحقّ في التأثير على مضامين التّعليم والحقّ في المساواة في التّعليم. إنّ هذه الحقوق يكمل الواحد منها الآخر أحيانًا، ويتناقض الواحد منها مع الآخر أحيانًا أخرى[8]. ففي ما يتعلّق بالحقّ في التعليم – فإنّ قانون التعليم الإلزامي، الذي تم تشريعه في إسرائيل فور إقامة الدولة، يسري تلقائيًّا على كل فتاة وفتى عربي ويطبّق اليوم بشكل كامل تقريبًا. فلا يمكننا تجاهل الإنجازات الحقيقيّة في تطبيق الحقّ في التعليم للبنين والبنات، والمتمثلة بزيادة عدد المدارس بآلاف النسب المئوية على المستويات كافةً ونشوء طلاب وطالبات اكاديمين عرب، على الرّغم من المطبّات والعوائق التي اعترضت، وما زالت تعترض، طريق كلّ طالبٍ وطالبةٍ من العرب. وتكمن المشكلة في الحقين الإضافيين – التأثير على المضامين والمساواة. لقد أشارت أبحاث وتقارير كثيرة إلى مسار الإجحاف الممارس على التعليم العربي في إسرائيل منذ بداياته، سواء أكان في كلّ ما يتعلّق بالجوانب المادية أو الجوانب المضمونيّة. صحيحٌ هو أنّه طرأت تغييرات هامة في الجانب المتعلّق بالمضمون، لا مجالَ لتفصيلها هنا، لكن نذكر أنّ برامج التّعليم يكتبها اليومَ مربّون عرب – وليس كما كانَ في السّابق. لكن، ما زال هناك قسم ملحوظ من المضامين تمليه وزارة التّعليم والمدارس تنهج وفقًا لها. هل الردّ على ذلك هو "حقوق جماعية" أو "الحكم الذاتي" في التعليم؟ يجب فحص ذلك بحذر شديد. ما معنى "حقوق جماعيّة" في التّعليم، هل القصد من وراء مصطلح كهذا هو الانفصال التّام عن الجهاز العام وإدارة التعليم بشكل حصريّ من قبل أبناء المجموعة نفسها؟ وهل القصد إقرار مضامين فلسطينيّة خاصة دون التطرّق إلى سياق كون الطلاب هم مواطني دولة إسرائيل؟ وهل القصد هو تعيين مديرين ومعلّمين وفق معايير يحدّدها، حصريًّا، مسؤولون عرب؟ وهل القصد هو إقامة جامعة عربيّة تطبّق حرية أكاديميّة ومستوى أكاديميًّا عاليًا ويكون فيها محاضرون وطلاب عرب فقط؟ وهل سيتمّ كل ذلك بتمويل تامّ من الدولة ومن دون تدخّلها؟
لا يبدو من المعقول، في الواقع السياسي والاجتماعيّ الراهن وعلى المدى المنظور، أن تسمح الدولة بذلك. من جهة أخرى، فإنّ التشكيك المتبادل والاغتراب الآخذ بالازدياد للشبّان العرب عن الدولة، عن مواطنتهم الإسرائيلية وعن كلّ ما تمثّله، هي وصفة أكيدة لإبعادهم مجدّدًا عن واقع حياتهم نحو الانفصاليّة لديهم وخلق مشاكل جديدة بدلاً من مواجهة المشاكل القائمة. إنّ الحكم الذاتي التّام يمكنه أن يخلق وهمًا من الإدارة الذاتيّة، لكن ما دامت التبعية المالية للدولة هي شبه تامّة، فمن الواضح أنّه لن تكون هناك إمكانية إدارة حكم ذاتيّ وسيزداد الإحباط.
إنّ الحقّ في التأثير على مضامين التعليم يجب أن يمنح لكلّ مواطن ولكلّ مجموعة، وهو "مشتقّ من الحقّ الأساس في الأوتونوميّة، الحرّية والكرامة التي هي أساس التفكير اليبرالي"[9]. وهو ينبع أيضًا من فرضيّة أنّ "التّعليم هو شرط للحفاظ على "ثقافة"، والتي هي حيويّة بذاتها لتحقيق الحريّة، الكرامة والهوية الشخصيّة للإنسان"[10].
إن التشريع والحكم القضائيّ في إسرائيل يتيحان للأهالي أن يؤثّروا على مضامين التعليم[11] و بالفعل في مدارس كثيرة يوجد تأثير كهذا للأهالي. إنّ تأثير مجموعة إثنية أو ثقافية، وفي حالتنا – مجموعة قوميّة – هو محدود. فحتى في حال أنها أنشأت مدارس خاصة، فليس في إمكانها أن تجبر الأهالي على إرسال أبنائهم إليها.
حسب رأيي، لن يجد المطلب المبرّر بالمساواة التامة، في التّعليم أيضًا، إجابة شافية ووافية في معادلة "الحقوق الجماعيّة". إنّ الحلّ لضائقة الحاضر لا يمر بالضرورة عبر الفصل والانغلاق، وإنما تحديدًا عبر التغلغل إلى داخل الخطاب التعليميّ الإسرائيلي الشّامل بشكل يجعله متعدّد الوجوه، متعدّد الثقافات ومتعدّد المجتمعات. قد يبدو هذا طوباويًّا، لكن يجب السعي إلى وضع يرتكز فيه التعليم في إسرائيل على التعدّدية الحقيقيّة. إنّ جهاز التعليم التعدّدي يتيح لكل مجموعة أن تحدّد أجزاء ملحوظة من المضامين التي تريد أن تكسبها لأبنائها وبناتها، لكن مع ذلك تكون ملزمة بخطّة نواة مشتركة تشتمل على مضامين عبرية ويهوديّة وفي موضع بارز ومركزيّ اللغة العربية، فصول من التاريخ والثقافة الفلسطينيين والعربيين، إلى جانب قيم الديمقراطية، التعددية، الحوار وممارسة المواطنة المشتركة.
إنّ النقاش حول الحقوق الجماعيّة هو في ذروته الآن، وهو يستوحي من نضالات وإنجازات أقليّات ومجموعات إثنية وقومية في أرجاء العالم. لقد اقترِح هنا، إلى جانب بلورة خطوط موجّهة للحقوق الجماعية في مجالات الثقافة والتعليم وصبّ مضامين حقيقيّة فيها، أن يتمّ فحص الإسقاطات بعيدة المدى الناجمة عن تحقيق هذه الحقوق على مكانة العرب في دولة إسرائيل والعلاقات المتبادلة بينهم وبين المجموعة اليهوديّة. كما عُرضَت هنا رؤية بديلة لدمج وخلق جهاز تعدّدي، متساوٍ ومشترك – بدلاً من الفصل والعزل.
للاستزادة:
جبارين، حسن، "الحقوق الجماعية والمصالحة في بناء الدستور: الحالة الإسرائيلية"، مجلة عدالة الإلكترونية، العدد 12، نيسان 2005
جمّال، أمل، "حول أخلاقية الحقوق الجماعية للعرب في إسرائيل"، مجلة عدالة الألكترونية، العدد 12، نيسان 2005
يونه، يوسي، لصالح الفرق، فان لير وهكيبوتس همؤوحاد، 2005. (بالعبرية)
رابين، يورام ويوفال شيني (محررين)، حقوق اقتصادية، اجتماعية وثقافية في إسرائيل، راموت، جامعة تل أبيب، بالتعاون مع المسار الأكاديمي التابع لكلية الإدارة، 2005. (بالعبرية)
ريخس، إيلي وسارة أوستسكي-لازار (محررين)، مكانة الأقليّة العربية في دولة القوميّة اليهودية، جامعة تل أبيب، 2005. (بالعبرية)
[1] د. سارة أوستسكي- لازار هي باحثة في مركز الإستراتيجية والتفكير السياسي في الجامعة العبرية وعضوة في فوروم الوفاق المدني.
[2] يُنظر: قرار المحكمة العليا 11163/03، لجنة المتابعة العليا لشؤون المواطنين العرب في إسرائيل وآخرون ضد رئيس حكومة إسرائيل، قرار حكم من يوم 27.2.2006. رفع الالتماس اول مرة في سنة 1998. مثلت فيها عدالة الملتمسين في السنوات الثمانية التي استمر فيها الاجراءات القضائية في هذا الملف.
[3] يُنظر: إيلي، ريخس وسارة أوستسكي- لازار (محررين)، مكانة الأقلية العربية في دولة القومية اليهودية، ص. 66، جامعة تل أبيب، 2005. (بالعبرية)
[4] جمال، أمل، "حول أخلاقية الحقوق الجماعية للعرب في إسرائيل"، مجلة عدالة الألكترونية، العدد 12، نيسان 2005.
[5] يونه، يوسي، لصالح الفرق، ص. 114، فان لير وهكيبوتس همؤوحاد، 2005. (بالعبرية)
[6] يُنظر: رابين، يورام ويوفال شيني (محرّرين)، حقوق اقتصادية، اجتماعية وثقافية في إسرائيل، رموت، جامعة تل أبيب، بالتعاون مع المسار الأكاديميّ لكليّة الإدارة، 2005. (بالعبرية)
[7] نفس المصدر، ص. 661.
[8] نفس المصدر، ص. 569.
[9] نفس المصدر، ص. 577.
[10] نفس المصدر، ص. 578.
[11] نفس المصدر، ص. 581.