التعليم العربي في إسرائيل: ما بين خطاب الهوية المتعثر والإخفاقات التحصيلية
إسرائيل في المكان الأول من حيث الفوارق في التحصيل بين الطلبة لانتماءاتهم الإثنية والطبقية، نتيجة لسياسات ممنهجة
د. خالد أبو عصبة | مجلة عدالة الالكترونية، العدد 63، آب 2009
لقد طرحنا في أكثر من مناسبة، وفي العديد من المقالات التي تطرّقنا من خلالها إلى التعليم العربيّ في إسرائيل، أنّ الجهاز التعليميّ-التربويّ لا يقوم بدوره المنشود. ولم نقل ذلك من باب مقارعة من هو مسؤول بشكل مباشر أو غير مباشر عن عمل الجهاز وأدائه فحسب، (مع إيماننا بضرورة المُساءَلة)، وليس من باب اتباع أسلوب النقد كأسلوب فكريّ وتوجّه أكاديميّ (وهذا مقبول علميًا وأكاديميًا)، فقط، وإنما كواقع نشهد نتاجَه مع انتهاء وأثناء كلّ عام دراسيّ، لدى نشر النتائج الرسمية، المحلية منها والدولية، للتحصيل الدراسيّ على جميع المستويات وفي كلّ المراحل التعليمية.
كما نلمس نتائجَ وانعكاساتِ إخفاق الجّهاز في واقع الجمهور العربيّ الفلسطينيّ في البلاد، سواءً أكان ذلك على مستوى الثقافة السياسية تنظيميًا وممارسةً، أم على مستوى المكانة الاقتصادية والاجتماعية المتدنيّة لدى هذا الجمهور، مقارنةً بجمهور الأغلبية من اليهود في الدولة.
وقد يدّعي البعض أننا نحمّل جهاز التربية والتعليم ما لا طاقة له به، وأننا نعوّل عليه في إصلاح جميع سلبيات وإخفاقات المجتمع وأزماته الأخلاقية والقيميّة، تعويلاً مُبالغًا به. على مثل هذا الادّعاء نُجيب باختصار، بأنّ العملية التربوية والتعليمية هي حجر الأساس في أيّ بناءٍ اجتماعيّ وفي أية تنمية مجتمعية واقتصادية، بل تُعتبر العملية التربوية والتعليمية المشروعَ الحضاريّ والثقافيّ الإنسانيّ والتنمويّ الأساسيّ لأيّ مجتمع كان. فكلّ جهاز تربويّ- تعليميّ، في أيّ بلدٍ كان، وفي أيّ ظرف سياسيّ واجتماعيّ اقتصاديّ، يعمل على تحقيق ثلاثة أهداف؛ الأول: تنشئة جيل المستقبل، مُعتمدًا في سبيل ذلك على الموروث التاريخيّ والحضاريّ والثقافيّ للهوية والانتماء إلى الدين والأمة والوطن، مع فتح فرصة لإمكانية التغيير والتكيّف وفق المنظومة القيمية المتعارف عليها. الهدف الثاني: تمكين المتعلمين من ممارسة حقهم في بناء شخصياتهم ومساعدتهم على الترشّد الذاتي، كي ينشأوا على الفضيلة والأخلاق الحسنة، مُسلحين بقيم الاعتدال والتسامح، بحيث يتمكّنون من أخذ دورهم ومكانتهم الاجتماعييْن، وفق قدراتهم ومكتسباتهم، وليس وفق حسبهم ونسبهم (انتماءاتهم العائلية والطائفية والعشائرية والطبقية). أما الهدف الثالث فيتمثل في منح الفرصة لكلّ متعلم في استغلال أقصى قدراتة الذهنية ومميّزاتة الشخصية كي تُتاح له فرصة الانخراط في الحِراك الاجتماعيّ والاقتصاديّ، ليعود بذلك بالمنفعة عليه- على الصعيد الشخصي وعلى الصعيد المجتمعي برمّته.
عودة إلى جهاز التعليم العربي: من خلال متابعة مدى قدرته على تحقيق هذه الأهداف الثلاثة، نسمح لأنفسنا بالاعتقاد -بل وبالجزم- بأنّ الجهاز غير قادر على تحقيق هذه الأهداف، إذا ما تتبّعنا كيفية عمله وتطبيقه لأهدافه (أهداف المُشرِّع وصاحب القول الفصل سياسيًا). بل ونزيد بأنّه سيكون من ضرب الخيال أن يعمل الجهاز الرسميّ على تحقيق الأهداف التي ذكرناها مجتمعة، وذلك في ظلّ الواقع السياسيّ الراهن. وهذا يستوجب منا التوجّه إلى مؤسّساتنا (لجنة متابعة قضايا التعليم العربي) وإلى مثقفينا الأكاديميين والمهنيين والنخب السياسية القطرية والمحلية ومؤسّسات المجتمع المدنيّ، ومطالبتهم بضرورة التكاتف معًا لغرض طرح نموذج تعاضديّ تآزريّ (Synergy model) قادرٍ على مؤازرة الجهاز التربويّ الرسميّ وغير الرسميّ في اجتياز محنته بغية الوصول إلى الأهداف التي يرمي إليها العمل التربويّ والتعليميّ.
على النموذج التعاضديّ التآزريّ المقترح العمل على مواجهة مجموعة من التحدّيات التي تحتكم وتخضع لعقبات ومحدوديّات جمّة. قبل الشروع في العمل التآزريّ وقبل أن يتحمل الشركاء مسؤولياتهم، يتوجّب عليهم أن يتفقوا مسبقًا حول تشخيص هذه التحدّيات وتعريفها، وتحديد الغايات والأهداف التي يسعون للوصول إليها، لأنّ معايير النجاح في مثل هذه الحالة تكمن في الوصول إلى الغاية والهدف، وعدم الاكتفاء بجودة السّيرورة.
التحدّيات التي يقف حيالها جهاز التعليم العربي والعملية التربوية عديدة، ويمكن اختزالها في تحدّييْن إثنيْن: تنشِئة الشباب الطلبة على تعزيز الهوية والانتماء الدّيني والقوميّ بالاعتماد على الموروث التاريخيّ والحضاريّ، وإكساب الطلبة المعرفة والآليات والمهارات العلمية ليتمكّن من الانخراط في التعليم العالي، لمن تسمح له قدراته التحصيلية بذلك، وانخراط الآخرين في الحياة العملية والمهنية، وفق قدراتهم، بغرض العيش بكرامة أسوة بالآخرين، مُرتكزين في هذا المطلب على حقوقهم كمواطنين في الحصول على المساواة المدنية- الفردية والجمعيّة. ولا يختلف اثنان على أنّ احتلال إسرائيل للمكان الأول من حيث الفوارق في التحصيل بين الطلبة، وفقًا لانتماءاتهم الإثنية والطبقية، ليس إلا نتاج سياسة مرسومة واضحة المعالم، بحيث تفضّل هذه السياسة التقدّم النوعيّ والكيفيّ على جَسر الهوّة بين الفئات والشرائح الاجتماعية المختلفة؛ أي انتهاج سياسة التمييز لصالح فئة وشريحة معينة، على حساب سياسة المساواة في الفرص (الهوة الخيالية في الاستثمار على مستوى الفرد تشير وتدلّ على انتهاج مثل هذه السياسة، ضاربين عرض الحائط بسياسة دولة الرفاه التي أكل الدهر عليها وشرب وأصبحت في خبر كان، لدى سياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في السنوات العشرين الأخيرة).
باعتقادي، تجاوزت التحدّيات التي يواجهها المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل بما يتعلق بالجهاز التربويّ، مرحلة المعرفة (المعطيات والمعلومات حول وضع الجهاز متوفرة في النشرات والدراسات الرسمية وغير الرسمية)، كما تجاوزت مرحلة التشخيص (يُنظر على سبيل المثال إلى ورقة التربية والتعليم في التصوّر المستقبليّ)، وهو الأمر الذي يدعو إلى فتح باب الاجتهاد من خلال الولوج في مرحلة محاولة طرح الحلول؛ أي التقدم إلى مرحلة طرح نماذج للعمل بحيث تعتمد على المنطلقات والثوابت لتحوي آليات عمل كفيلة بالخروج من الوضع الرّاهن المأزوم إلى وضع يفي العمل التربويّ الوظيفة التاريخية الأخلاقية والمهنية المَنوطة به.
ويجب على أية فاتحة لأيّ نموذج مقترح، أن تأخذ بالحسبان التعاملَ مع الهوية على أشكالها المختلفة كعامل أساسيّ لا غنًى عنه ولا مفرَّ منه. فمن غير الممكن التعامل مع التربية والتعليم في ظلّ غياب هذا العامل الأساسيّ والمركزيّ، لأنّه من غير المعقول اعتبار العملية التربوية عملية حيادية- وما أبعد هذا عن المنطق. نحن نعي جيدًا تخوّف البعض من الخوض في موضوع الهوية والانتماء كرافدٍ من الروافد الأساسية للعملية التربوية، بل هناك تخوف حتى من التعامل مع خطاب الهوية بحدّ ذاته، كون النقاش في شؤون تتعلق بخطاب الهوية يدفع باتجاه التداخل والتلاحم ما بين الموقف السياسيّ والثقافيّ من جهة، وما بين التوتر القائم بين الدولة كنظام سياسيّ وبين المجتمع كنظام اجتماعيّ-اقتصاديّ وثقافيّ، من جهة أخرى. وفي واقع المجتمع العربيّ الفلسطينيّ في إسرائيل لا وجود للنّدّية في الصراع القائم ما بين الدولة والمجتمع على تحديد المنظومة التربوية والتعليمية التي تُعتبر البوصلة الموجّهة لتشكيل الهوية والانتماء. الحاصل في واقعنا يدلّ على أنّ الدولة صاحبة القوة والنفوذ تضع إستراتيجيّاتها وبرامجها ومؤسّساتها وأيديولوجيتها -أو أيديولوجية قادتها- موضعَ التنفيذ، بغية إنتاج المجتمع الذي تفضّل.
لا شكّ في أنّ المؤسسات التعليمية تأخذ على عاتقها هذه المهمة وذلك لما لها من تأثير، خصوصًا على الشريحة الشبابية الناشئة والمستهدَفة، باعتبارها النّواة الصّلبة لأيّ مجتمع مستقبليّ؛ فتشكيل الهوية الشبابية تشكيل لهوية المجتمع بأسره، ومن هنا يمكن أن نفهم التأثير البالغ للدولة على تشكيل الهوية السياسية، إلى جانب أنها تتمتع بنفس مقدار التأثير على تشكيل الهوية الثقافية من خلال الحيّز العام الذي يعيشه المجتمع العربيّ في إسرائيل. ويحدّد هذا الحيّز جميع متطلبات الحياة لجميع شرائح وفئات المجتمع، بدءًا بالحاجة إلى الحِراك الاجتماعيّ والاقتصاديّ وانتهاءً بإمكانيات وأساليب قضاء أوقات الفراغ. ومع ذلك، نحن ندّعي أنّ تشكيل الهوية ليس عملية خاضعة لأهواء الدولة والجّماعات من خارج أو من داخل المجموعة، وحتى الأفراد من داخل المجموعة لا يمكنهم أن يغيّروها وفقما وأنّى شاؤوا. فبالرغم من أنّ الهوية ليست معطاة وثابتة وإنما تُبنى، إلا أنّ هذا البناء لا بدّ له أن يستند إلى موروث ثقافيّ حضاريّ تاريخيّ، ممّا يجعل الهويات تتمتع بنوع من الثبات، بحيث يمثل هذا الثبات عاملاً مؤسِّسًا للتغيير المطلوب والمنشود.
نلخّص مقالنا بالقول: رغم الواقع الذي يشير إلى عدم قدرة الجهاز على التعاطي مع الأهداف الثلاثة التي كنا أشرنا إليها، إلا أنّ هناك العديد من النّجاحات على المستوى التّحصيلي لأبناء المجتمع العربيّ الفلسطينيّ في البلاد. فقد استطاع البعض، رغم ما نعرفه عن شحّ الميزانيات والاستثمار، إختراق السّقف الزجاجيّ (بل الفولاذيّ) والوصول إلى الحِراك المهنيّ والاقتصاديّ. إلا أنّ مثل هذه النّجاحات تبقى فرديةً ويبقى مردودُها محصورًا في المستوى الفرديّ. لذا، نحن نتوقع من النموذج التعاضديّ والتآزريّ الذي أسلفنا الحديث عن وجوب طرحه، أن يعمل على إيجاد الصيغة العملية لكيفية تحويل الطاقات البشرية الهائلة في مجتمعنا العربيّ الفلسطينيّ في إسرائيل إلى مورد اجتماعيّ بملكية الجميع، بحيث تتكوّن من خلاله المجموعة القيمية الموجِّهة والدّاعمة للتوجّه العلميّ، الذي يؤهّل أبناءَنا لمواكبة تطوّرهم ونموّهم السّليم، إلى جانب تفاعلهم مع الثقافة الإنسانية الكونية.