هويّة وانتماء: مشروع رائد يجب الأخذ بتجربته للانطلاق نحو مشروع تربويّ بديل شامل
تعاني الأجيالُ الشّابة، إجمالاً، من ضعف الهوية الوطنية سياسيًّا وثقافيًّا إلى حدّ فقدان المناعة الوطنيّة
د. أسعد غانم [1]| مجلة عدالة الألكترونية، العدد 27، تموز – آب 2006
في السنة الأخيرة، أعدّت وزارة المعارف 100 مصطلحٍ ليدرسها جميع طلاب الصفوف السابعة وحتى التاسعه ويُمتحنوا بها. دار أكثر من نصف المصطلحات حول اليهوديّة والصهيونيّة، والمصطلحات ذات الصّلة بالعرب كانت في سياقات ثقافيّة - تراثيّة. أي أنّ هنالك تغييبًا واضحًا ومقصودًا لمسائل جوهريّة تربط العربيّ الفلسطينيّ في هذه البلاد. في قائمة المصطلحات التي وضعتها وزارة التربية. ردًا على إصدار كراس وزارة التربية، بادر مركز إبن خلدون للبحث والتطوير، والمركز لمكافحة العنصرية إلى مشروع نشر كراس يتضمن قائمة بديلة تحت عنوان "هوية وانتماء".
وتأتي الحاجة لقائمة المصطلحات البديلة ليس فقط بسبب تجاهل مؤسسات الدولة للتاريخ وثقافة السكان الفلسطينيين، وإنما بسبب الأزمة العميقة التي يعايشها السكان الفلسطينيين في إسرائيل، الأزمة التي تتعلّق بجوانب مختلفة لحيثيّات وجودهم. إنّ أيّة أقليّة قوميّة في نظام إثنوقراطيّ، مبنيّ على أساس حفظ التفوّق العرقيّ للأغلبيّة، تجابه إشكالاتٍ سياسيّة ووجوديّة تنبع من البنية الأساسيّة للدولة. فالدولة، من حيث تعريفها، تستثني الجماعات الإثنيّة والقوميّة التي لا تنتمي إلى الجماعة الإثنية، المتسلّطة، من مجمل الأهداف القوميّة للدولة، وتخصّ الجماعة المتسلّطة بمعاملة مميّزة تقرّها منظومة قوانين الدولة. إنّ الوضع القاسي النّاجم عن التمييز ضدّ جماعة إثنيّة منبعه الرّفض الإستراتيجيّ للدولة لأن تستجيب لمطالب المساواة والانتماء من خلال إطار مؤسّسات الدولة. إنّ كلّ جماعة إثنيّة تسعى لأن تكون جزءًا من الدولة، وتطلب، بطبيعة الحال، أن تتمتّع بالمساواة وبالانتماء وبالهويّة، كون هذه الأمور هي حاجات إنسانيّة أساسيّة غير قابلة للتفاوض، وليس في الإمكان تجاهلها أو كبتها بصورة مستديمة. لكنّ، وبسبب طبيعة النّظام في إسرائيل، ونتيجة سياسة الدولة التي تحول - عبر القوانين الأساسيّة - دون إمكان الحصول على المساواة، تواجه الأقليّة الفلسطينيّة إشكالاً وجوديًّا يتغلغل في مجالات أخرى. ويشمل هذا الإشكال جوانبَ متعدِّدةً من تطوّر الأقليّة الفلسطينيّة، وينسحب، كذلك، على علاقاتها بالدولة وبالشعب الفلسطيني، ويدفعها إلى فحص نقديٍّ للمكانة التي يجب أن تتمتّع بها الأقليّة الفلسطينيّة، ولبنية العلاقات من جهتها حيالَ الدولة.
بالإضافة إلى ذلك، ونتيجةً لسياسة الدولة ومبناها الأساسي الإجتماعي الفعال، تعاني الأجيالُ الشّابة الفلسطينيّة في إسرائيل، إجمالاً، من ضعف الهوية الوطنية سياسيًّا وثقافيًّا إلى حدّ فقدان المناعة الوطنيّة، وتجلّيات ذلك كثيرة، لا بل إنها لا تعدّ ولا تحصى اليوم، ويكفي أن نتنبّه لانتشار الأحزاب الصهيونية في الشارع العربيّ رغم الظلم والاضطهاد والقتل، أو في المقابل ظواهر شراء الأصوات من قبل الأحزاب العربيّة في انتخابات الكنيست الأخيرة. ومردّ ذلك، في الأساس (بالإضافة إلى أسباب أخرى)، إلى نجاح المؤسّسة الإسرائيليّة الحاكمة في استخدام المدرسة العربيّة كوسيلة للتدجين والأسرلة والتطويع والتحكّم بالمواطنين الفلسطينيين، ونقل الأفكار الهادفة إلى برمجة أجندة المجتمع الفلسطيني وفقَ مقاييس تراها السلطات الإسرائيلية مناسبةً لها. وبالتّالي، سعي هذه السلطات لخلقِ عربيٍّ فلسطينيٍّ مُغايرٍ ومختلفٍ عن الفلسطينيِّ في الأراضي المحتلّة، أو في اللجوء والشّتات.
لا يمكن التطرّق إلى جهاز التّعليم العربيّ في إسرائيل إلا بدايةً بالحقيقة التي يقرّ بها حتى أولئك المسؤولون عن جهاز التّعليم، سواء على صعيد واضعي السياسات ومتّخذي القرارات، أم على صعيد المسؤولين عن تنفيذ هذه السياسات ميدانيًّا. تكمن هذه الحقيقة في كون الجهاز يعمل في ظروف غياب المساواة (عدم مساواة من حيث الاستثمار، وعدم المساواة في التّعامل والاهتمام). فالموارد المخصّصة والمستثمرة في جهاز التعليم العربيّ ضئيلة مقارنةً بما يُخصّص ويُستثمر في جهاز التّعليم العبري، كما أنّ السياسات المحدِّدة للمضامين والمناهج تُحدَّد من غير إِشراك المواطنين والمربّين العرب أبدًا. ويتجلّى هذا الأمر في مستوى نتائج الجهاز المتدنّية، من حيث مستوى التّحصيل والإنجاز التّعليمي للطلاب، ومن حيث عدم الرضا لدى الجمهور العربيّ عن سير عمله، وكذلك من حيث الشّعور بالغربة لدى الجمهور العربيّ إزاء الجهاز التّعليميّ.
ونخصّ هنا بالذكر الجوانب الهامّة لبناء شخصيّة خرّيج المدرسة العربيّة. فبالإضافة إلى المهارات الأساسيّة والمتقدّمة مثل المعرفة واتقان اللغات والموسيقى والكمبيوتر، إلخ... يمكن اعتبار جهاز التّعليم أحد أهمّ مصادر صقل الشخصيّة وأبعادها الثقافيّة والوطنيّة والدينيّة والعالميّة، وغير ذلك من الجوانب الأساسيّة للشّخصية وصلاتها المختلفة، ومن هنا يمكن الإشارة إلى وجود تحدّيات أساسيّة على مستويين من المهامّ الماثلة أمام جهاز التّعليم:
1 – المستوى البنيويّ: مبنى جهاز التّعليم كجزء من الجهاز التعليميّ العامّ وسيطرة المؤسّسة التعليمية الرسميّة، وحتى بعض مركّبات أجهزة الأمن، على التّعليم العربي، أدّت إلى مطالبة شعبيّة بتغيير مبنى جهاز التّعليم العربيّ، وقد عرضت لجنة متابعة قضايا التّعليم العربيّ مطالبها من خلال هيئات جماهيرية مختلفة، وأمام وزيرة المعارف السابقة ليمور ليفنات، والإدارة العليا التابعة لها، وأمام لجنة التعليم في الكنيست: "استحداث إدارة تربويّة عربيّة مستقلّة ذاتيًّا، لكنها تعمل كجزء من جهاز التّعليم العامّ، مع وجود سيطرة عربيّة من حيث مركّبات العمليّة التعليمية (تعيين المعلّمين، وضع البرامج التعليميّة، مراقبة الجهاز، إلخ..."[2]. يتطلّب هذا المطلب جهدًا سياسيًّا وإرادة شعبيّةً متواصلة ومتعلّقة، في الأساس، بقدرتنا على فرض تغيير بنيويّ عميق يجب أن نسعى له بجدٍّ".
2- المستوى المتعلّق بالمضامين: منذ سنة 1948 والمخابرات العامة تسيطر على النظام التربوي العربي عن طريق تسيير وفرض مناهج تعليميّة أُحادية للمجتمع العربي، والحسابات السياسيّة التي تطفو في مناسبات عدّة، كالتّعليمات التي عمّمتها وزارة التعليم الإسرائيلية في شباط 2006، والتي تحظر إدخال كرّاس "هُوية وانتماء" إلى المدارس[3]. باختصار، رعت إسرائيل، ولا تزال، مشروعًا ضخمًا لأسرلة المواطنين الفلسطينيين القاطنين فيها، فيما عجزت أحزابنا ومؤسّساتنا التمثيليّة والأهليّة عن تجاوز خطاب الشّعار والاحتجاج وردّ الفعل العابر الذي يندرج في أحيان كثيرة، ضمن الضريبة الشفهيّة أو رفع العتب.
وعليه، فإنّ إنقاذ الأجيال من ضياع الهُويّة الوطنيّة والاندماج السلبيّ في المجتمع الإسرائيليّ إلى حدّ مقلق وخطير جدًّا، يستلزم مشروعًا أهليًّا طويل الأمد يستند إلى رؤية ويُشتقّ منه برنامج عمل عمليّ لمواجهة برامج طمس الهُوية على الطريقة الاستعمارية ويضع بين أيدي أبنائنا الرواية التّاريخيّة الفلسطينيّة ويغذّيهم من مناهل الثقافة العربيّة.
العرب الفلسطينيّون في إسرائيل متميّزون عن المجموعات الأخرى في الدولة، في الكثير من مناحي الحياة. ولعلّ أهمّ سمات التّمايز بين الشّعبين العربي - الفلسطيني واليهودي هي اختلاف الروايات التّاريخيّة لكليهما، خصوصًا تلك المتعلّقة بالأرض والصّراع الفلسطيني - الإسرائيلي. فالأمور المتعلّقة بالهُويّة هي مواضيع مختلف عليها، ووزارة المعارف الإسرائيليّة لم تُباشر، حتّى اليوم، مشروعًا يأخذ هذه القضايا بالحسبان. وإنّما كان ما قامت به، على الأغلب، في الاتّجاه المعاكس.
لم تتطرق "قائمة المصطلحات" التي أصدرتها وزارة المعارف الإسرائيليّة إلى تاريخنا وذاكرتنا الفلسطينيّة وخصوصيّاتها، بل رمت من خلال الـ 100 مصطلح إلى ترسيخ التّاريخ اليهوديّ ورموزه. لذا فقد وجدت جمعية إبن خلدون للتطوير الإجتماعي، والمركز لمكافحة العنصرية أنّه من الواجب إتخاذ موقف وصياغة رد مسؤال تجاه ما يُفرض علينا من طمس لتاريخ الشّعب الفلسطيني ونضاله، وتجاه حقّ أبنائنا في معرفة تاريخهم وحضارتهم. ومن هنا طوّرت المؤسسات فكرة مشروع إصدار كرّاس بديل. "هوية وإنتماء"
يهدف المشروع إلى:
-
رفع مستوى المعرفة بأعلام ورموز ومؤسّسات الشّعب الفلسطينيّ.
-
تعميق وترسيخ الصّلة بين أبناء شعبنا وبين تاريخه ونضاله.
-
خلق نقاش مع المؤسّسة الإسرائيليّة حول أهميّة خصوصيّتنا الثقافيّة وهويّتنا الجماعيّة.
-
الكشف عن التوجّه الإسرائيليّ لجهاز التّعليم الذي يحاول أن يؤكّد على يهوديّة الدولة مُغيِّبًا 20% من مواطني الدّولة.
من هذه المنطلقات، جميعًا، نبعت الحاجة إلى إصدار هذا الكرّاس لكي يضع أمام طلابنا مجموعة من المصطلحات الأساسيّة المتعلّقة بدوائر انتمائهم المركزيّة (الدينيّة، المدنيّة، القوميّة والإنسانيّة العامة) وذلك لكي نوفّر لطلابنا فرصة التعرّف على ثقافتهم ودوائر انتمائهم بشكل أعمق وأوسع، يمكّنهم من معرفة الآخر واحترامه واحترام الميراث الإنساني العامّ.
وقد رأى القيّمون على هذا المشروع والمساهمون فيه أن يتمّ تعريف المصطلحات وعرضها بشكل علميّ مدروسٍ بعيدٍ عن المبالغة والمغالاة أو الحذف والطمس والتّغييب، يقدّم الوقائع التاريخية بشكل أقرب ما يكون إلى الواقع، آخذينَ بالاعتبار أنّ ما لأحد أن يدّعي الاستحواذ الكامل على الحقيقة. وقد رأينا، كذلك، أن نضيف للمصطلحات المعرّفة جملةً من المصطلحات ذات الصّلة، علّها تكون أساسًا لفعاليّات تربويّة في الصفوف، يكون من شأنها الاستزادة من منهل المعرفة الذي لا يمكن حصره في عمل واحد.
من المهمّ الإشارة هنا إلى أنّنا لا ندّعي حصرَ وعرضَ كل المصطلحات الأساسيّة والهامة للطلاب العرب، بل وضعنا أساسًا من الواجب تعميقه في المستقبل. كما أننا اتّبعنا بعض القواعد المُوجِّهة لعملنا هذا، وأهمّها عدم استثناء الآخر، اليهوديّ والإسرائيليّ، بل عرضنا بعض رموزه من وجهة نظرنا. كما أنّنا تطرّقنا في باب الشخصيّات إلى شخصيّات وافتها المنيّة قبل البدء بهذا العمل، وسبب ذلك، في الأساس، تفادي أيّة حساسيّات ليس هنا المكان للخوض فيها.
تم تقسيم محتويات الكراسة الى خمسة مواضيع: الأحداث التاريخية، المواقع (تشمل المستوطنات) مؤسسات (فلسطينية، إسرائيلية وعالمية)، شخصيات معروفة (عربية، فلسطينية وإسرائيلية) ورموز. في كل موضوع تم تعريف 20 مصطلح تقريبا. كل مصطلح ارفق بتعريف من نصف صفحة، وهوامش كل صفحة تحوي مصطلحات تتعلق بالموضوع الرئيسي. هذه المواد من المفترض ان تشكل دليل للطلاب , للمعلمين وللأهالي في صياغة مصطلحاتهم الشخصية في كل موضوع.[4]
تم طبع وتوزيع أكثر من 65,000 نسخة، بدعم من مؤسّسة "تعاون" الفلسطينيّة. ويجب أن أذكر هنا أنّ أكثر من 25 أكاديميًّا عربيًّا شاركوا تطوّعًا في صياغة المشروع، ولا يزال هؤلاء يُساهمون في تنفيذ المشروع من خلال المشاركة في ورشات مناطقيّة يُشارك فيها الأهل والمعلّمون لغرض التعريف بالمشروع وآليّات تنفيذه. وبقي أن أضيف أنّ وزارة المعارف الإسرائيليّة أعلنت في آذار 2006 عن وقف تنفيذ مشروعها بهذا الصدد استجابةً لضغوط تعرّضت لها في أعقاب إصدار "هُويّة وانتماء"[5]. وبهذا، يمكن التصريح بأنّ الإنجازات المقرونة بهذا المشروع هي غير مسبوقة ويجب الأخذ بالتجربة كعيّنة ممّا يجب فعله في مجال التدخّل الأهلي من قبل مجتمعنا في كل ما يتعلّق بمبنى التعليم ومضامينه، وأكثر من ذلك، يجب أن يكون هذا العمل المتواضع برهانًا على قدرتنا في العمل على إحداث تغيير جذريٍّ في جهاز التّعليم العربيّ من حيث المبنى والمضامين.
[1] رئيس قسم الحكم والفكر السياسي ومحاضر في قسم العلوم السياسية، جامعة حيفا ورئيس ادارة جمعية ابن خلدون – الجمعية العربية للبحث والتطوير.
[2] خالد أبو عصبة ، التعليم في اسرائيل. رام الله: مدار, 2006.
[3] في رسالة ارسلت في شباط 2006, طالب المفوّض عن التعليم العربي في وزارة التعليم مدراء المدارس العربية بعدم السماح بدخول هذه الكراسات الى مدارسهم.
[4] بالإمكان الإطلاع على الكراسة والمصطلحات باللغة العربية على موقع ابن خلدون – الجمعية العربية للبحث والتطوير، عنوان الموقع: www.ibn-khaldun.org
[5] تقرير شامل حول هذا القرار تم نشره في الصحيفة الأسبوعية "كل العرب " بتاريخ 10 آذار 2006.