جنوب أفريقيا: القانون والبحث عن العدالة
لم يقم المحامون ولا المحاكم بإسقاط نظام الأبرتهايد. لقد قامت بذلك المقاومة الشّعبية، مدعومةً بحشد الضغوط الدوليّة.
المحامي جيف بدلندر *| مجلة عدالة الإلكترونيّة، العدد 2، حزيران 2004
لم تقدّم جنوب أفريقيا في ظلّ نظام التفرقة العنصرية (الأبرتهايد) مستقبلاً واعدًا للمحامين المهتمّين بالبحث عن العدالة.
لقد تمّ تقسيم جميع السكّان إلى مجموعات عرقيّة، الأمر الذي حدّد ملامح القوّة السياسيّة، كما حدّد أين يسكن الفرد واين يتعلم، ويعمل، ويلعب، ويتلقى العلاج الطبي وحدد كذلك أين يدفن . وتمّ نزع الجنسيّة عن ما يقارب ثمانية ملايين مواطن من جنوب أفريقيا، وأعلن عنهم مواطنين في "دويلاتٍ" أنشأتها حكومة جنوب أفريقيا وسيطرت عليها. وتمتّعت الحكومة بصلاحيّة اعتقال الناس وزجّهم في سجون انفرادية, من غير محاكمة، إلى أجلٍ غير مسمّى، وفرض الحظر على المنظّمات والأفراد ، ومنع صدور الكتب والصحف، وإرغام جماعات من الناس على مغادرة بيوتها. ومارست الحكومة هذه الصلاحيّات بحرّية تامّة، بل حتّى بشكل عشوائي ودون تمييزٍ، إطلاقًا. جرى كلّ ذلك وفقًا للقانون في إطار جهاز لم تتمتع فيه المحاكم بصلاحية ابطال أيٍّ من القوانين التي أقرّها البرلمان.
وتفشّت في ظل هذه الصلاحيات السلطوية الواسعة, المخالفات القانونية في المؤسسات الرسمية. ووجهت التهم حول إعتداءات مستمرة لقوّات الأمن (وتمّ إنكارها بشكل دائم). وتوفّي المعتقلون في السجون إثر "انزلاقهم في الصابون" أو إثر "تعثّرهم على الدرج"، وحتّى أن بعضهم "سقط من النّافذة". وأشارت دلائل كثيرة إلى دعم قوّات الأمن لاعمال الجماعات اليمينية او عدم ردعها .
على الرغم من ذلك، ظهر داخل هذا المناخ العدائي، عدد من التناقضات. فقد أصدرت المحاكم أوامرها بإعادة عماّل المناجم المضربين إلى عملهم(بعد ان تم فصلهم)، وأعلنت أن إجلاء أبناء القبائل الأفريقية عن أراضيهم، عنوةً، هو إجراء غير قانونيّ. وأمرت بإعادة بناء الأكواخ التي هدمتها الشّرطة من دون صدور أمر من المحكمة بذلك. وأعلنت عن عدم قانونيّة السياسات والممارسات التي حالت دون إقامة الملايين من الجنوب أفريقيين في مناطق مدينية. وأمرت بإطلاق صراح المعتقلين بسبب عدم تمكن الشّرطة من توفير المبررات الكافية لتمديد اعتقالهم. وبرّأت ساحة عدد من الأشخاص الذين حوكموا في قضايا "الخيانة"، بسبب مقاومتهم الناشطة لنظام الأبرتهايد.
وتجدر الإشارة إلى أنّ القضايا التي لم تنشر والتي تمّت خسارتها في المحاكم، أو القضايا التي لم يتمّ تقديمها للمحاكم أصلا، فاقت في عددها مجمل النجاحات التي ذاع صيتها، غير أن هذه النجاحات كانت حقيقيةً. وعندما نجحت جنوب أفريقيا في تحقيق الديمقراطيّة، لاحقًا، اعتبر الكثير من المحللين أنّ هذه التحدّيات القانونيّة ساهمت مساهمةً جديّةً في النضال من أجل إنهاء التفرقة العنصرية (الأبرتهايد).
ويكمن تفسير هذا التناقض في حقيقة ممارسة هذا النهج القمعي القانوني، ضمن إطار جهاز قضائيّ "محنّك". فقد آمنَ قضاة المحاكم العليا بأنّهم يعملون بمنأى عن السّلطة التنفيذية، وتصرّفوا، عامةً، كمستقلّين، أي أنّهم لم يتلقوا للتعليمات, على الرغم من ادعاء البعض بأنّ القضاة لم يكونوا بحاجة لهذه التعليمات، إذ أن العديد منهم تبنوا نفس مواقف الحكومة . وبالطبع، فقد شارك الجهاز القضائيّ, الذي تألف بشكل حصريّ، تقريبًا، من الرجال البيض، أبناء الطبقة الوسطى، أصحاب السلطة في أفكارهم المسبقة وقيمهم الاجتماعيّة. وعلى الرغم من ذلك، كان للإستقلالية الشكليةّ دلالة خاصة، وبشكل عام أذعنت الحكومة لأوامر المحكمة. وخلق هذا الأمر مجالا للمحامين الذين عملوا لصالح مَن عارضوا نظام الابرتهايد.
تنقسم الملفات التي طرحت أمام المحاكم إلى ثلاث فئات رئيسية:
"الملفات الإختبارية" (Test Cases) كانت أكثر المداولات القضائية شيوعا، وشكّلت محاولة لتعريف (أو إعادة تعريف) مبدأ قانوني ما، بهدف إحداث تغيير إيجابي في وضعية فئة كبيرة من الناس. وتشكل مجموعة القضايا التي عالجت "قوانين التنقل"، التي قيّدت حرية التنقل للافارقة، أكثر هذه القضايا شهرة.
وبالطبع، لم يجد البرلمان صعوبة في سنّ القوانين التي كانت تقلب نتائج هذه القضايا رأسا على عقب. لكن مع حلول الثمانينات، وخلال تقديم هذه القضايا إلى المحاكم، أصبحت حكومات نظام الأبرتهايد تواجه ضغوطًا دوليّة متزايدة. فقد فُرضت مقاطعة رياضيّة دوليّة على جنوب أفريقيا ونظامها العنصري، واتسعت الحملة ضد الاستثمار في هذا البلد، ورافقتها عقوبات اقتصادية متنوّعة. وكان من مصلحة الحكومة أن تعرض أمام المجتمع الدولي شكلا إصلاحيا، للحيلولة دون المزيد من العزلة. لذا اقترن قلب الحكومة للقرارت القضائية بواسطة سن القوانين، بدفع ثمن باهظ للمجتمع الدوليّ. وشكّل هذا الأمر تقييدًا جديًا للحكومة.
أما الشّكل الثاني من العمل القانوني فكان إرغام الجهاز القضائيّ على الإيفاء بالتزاماته بشكل دقيق. على سبيل المثال، بدأت الحكومة، في جوهانسبورغ، في الثمانينات، بمقاضاة المئات، جنائيًا، من أجل تطبيق"قانون مناطق المجموعات" ( Group Areas Act) الذي حظر إقامة غير المصنّفين على أنّهم "من البيض" في مناطق "البيض". ونادرًا ما كان يتم تقديم دفاع قضائي ملائم أمام هذه الاتّهامات، بسبب وضع القانون آنذاك وعدم توفر ميثاق حقوق(Bill of Rights) في جنوب أفريقيا. واتحد قسم من المحامين الجماهيريين ومحامين من القطاع الخاص وأخذوا على عاتقهم تمثيل المتهمين في هذه القضايا من دون مقابل. وأجبرت الدولة، خلال هذه المداولات القضائية، بإثبات التفاصيل الدقيقة المرتبطة بالمخالفة والتي اشتملت على العديد من التفاصيل الفنية. وتمّ تقديم الالتماسات استنادًا إلى خلفيّات متنوّعة، مع إدراك أنّ فرصَ نجاحها ضئيلة جدًا. وسلط شطب الالتماسات المرفوضة الكثير من الضوء على الإجحاف الحاصل آنذاك، وبدأ الجهاز يرزح تحت وطأة أعباء مُضنية، حيث سارت المحاكمات ببطء شديد. وجعل أحد القرارات الخلاقة التي أصدرها أحد القضاة، من عمليّة استصدار الدولة أوامر الإخلاء أمرًا أكثر صعوبةً، حتى حين تمّت إدانة المتّهم بالجُنحة المنسوبة إليه. وبعد مضيّ سنتين أو ثلاثٍ، استُكملت الملفات المستندة إلى "قانون مناطق المجموعات"، وذلك بسبب إرغام جهاز القضاء على الوفاء بوعده بإجراء محاكمة عادلة لكلّ شخص أراد ذلك. لقد أجبر المحامون الإدعاء العام على القيام بوظيفته كاملة في كل قضية وقضية، الأمر الذي استهلك الكثير من الوقت،ولعبوا بذلك دورا رئيسيا في الحد من الدعاوى العنصرية.
وكان الشّكل الثالث من العمل القانوني أقلّ إثارةً، لكن لربّما كان هو الأهم. لقد ساد هدوء سياسيّ نسبيّ في جنوب أفريقيا في السّتينات، في أعقاب حظر حركات التحرّر الرئيسيّة وسجن معظم قاداتها ونفيهم. وشهدت السبعينات يقظةً ما، مع نموّ المقاومة على العديد من الجبهات. وأصبحت "نقابات العمّال السّود" قوّة اقتصادية متينة تحمل في طياتها قوّة سياسية كامنة. وبدأت مقاومة الأبارتهايد تشهد تناميا داخل العديد من القطاعات المجتمعية، وباتَ القضاء وسيلةً هامةً لحماية التنظيمات السياسيّة من القمع والملاحقة. وقامت حركة نقابات العمال باستخدام الأدوات القضائية بمهارةٍ، وكانت الرائدة في هذا المجال.
تعلّمت الجماعات المهدّدة بالإجلاء القسريّ عن أراضيها استخدام المُحامين والقانون لتعزيز مقاومتها. ولم يتمكّن المحامون، عادةً، من تقديم أيّ معونة لمواجهة الإجلاء ذاته، إذ منح القانونُ الحكومةَ صلاحيّات واسعة. ولم تكن عملية الإجلاء القسريّ تحصل دفعة واحدة، فعادةً ما كانت تبدأ بعملية تثبيط عزائم منهجيّة لمعنويّات الجماعات ذات الصلة، وبتقويض مقاومتها من خلال قطع الخدمات الاجتماعيّة عنها (على سبيل المثال: عدم دفع مرتَّبات التقاعد)، وبحظر الاجتماعات، واحتجاز القادة الجماهيريين، وحتّى قتلهم. وعادةً، كانت مثل هذه الممارسات تشكل أرضًا خصبة للعمل القضائي. وتعلّمت الجماعات والنشطاء الجماهيريون والمحامون العمل سويّةً للطّعن في أساليب تحطيم هذه المجموعات، وتوفير الدّعم للمقاومين. فقد قاموا، جزئيُا، بحشد معارضة دوليّة لهذه الممارسات عن طريق إبراز عملية الإجلاء في المحاكم، وإثارة العواطف نحوها. وتوقف الإجلاء القسريّ في أعقاب تضافر القوى بين المقاومة الجماهيرية المؤثرة، والمعارضة الدوليّة المتصاعدة، والطّعن في المحاكم.
تغيَّرت أمور عدّة في جنوب أفريقيا في العام 1994. فقد تمّ تبنّي دستور ديمقراطي، وميثاق حقوق شامل. وتم تعيين محكمة دستورية ذات قوّة، كان العديد من أعضائها ناشطين جدًّا في مجال العمل القانوني ضدّ نظام الأبرتهايد.
على الرغم من ذلك، لم تتغيّر بعض الأمور بشكل سريعٍ. فلم يختفِ الفقر وعدم المساواة اللذان خلقتهما أجيال من الأبرتهايد ونزع الملكية، عند إزالة الدعائم القانونيّة التي خلقت هذه الأنماط. فلا تزال أعداد كبيرة من الناس تقيم في مساكن غير لائقة، وما زال هناك أطفال لا تتوفّر لديهم إمكانيّة تلقّي التّعليم اللائق، وهناك المعوزون الذين يحتاجون إلى مخصّصات الرّفاه الاجتماعي. وبرزت مشاكل جديدة، وخصوصًا فيروس HIV مرض ضعف المناعة المكتسبة (الإيدز).
تمثّل جنوب أفريقيا تجربة جريئة وطموحة في النّظام الدستوري والدمقراطيّة. والسؤال هو: هل يقدر النّظام الدستوري والدمقراطيّة على الازدهار في مجتمع ما يزال يعاني من التمزق الشديد نتيجة للمشاكل الإجتماعية الملحة، وبعد أجيال من القمع ونزع الملكية ؟
لقد أصبح إرث الماضي أمرًا بالغ الأهميّة في التعامل مع هذه المشاكل الجديدة التي تميز جنوب أفريقيا الدمقراطية، وذلك لسببين اثنين. الأوّل: خلقَ التاريخ النّضاليّ في المحاكم تقليدًا وتوقّعات هامّة حول إمكان المستضعفين التوجّه إلى المحاكم عند وقوعهم في مِحنةٍ. وأصبح استخدام المحاكم جزءًا من ثقافتنا السياسيّة. وهنالك تقبّل واسع لأهميّة الحقوق، ولدور المحاكم في حماية المستضعفين والمهمّشين. واكتسب الدور الذي تقوم به المحاكم أهمية كبيرة في سعينا لترسيخ ميثاق الحقوق في دمقراطيتنا الفتية.
السبب الثاني أننا لم نفقدْ عِبَر الماضي كليّةً. لقد تعلّمنا أن مفتاح معالجة المشاكل السياسية يكمن في الحشد الاجتماعي والسياسي، وهذا ما يعزّز الدمقراطية، يعمقها، ويحولها الى أكثر من مجرّد الإدلاء بالصوت مرّة كلّ خمس سنوات. وتعلّمنا، أيضًا، أنّ بإمكان المحاكم أن تكون منبرًا هامًّا لطرح القضايا والمسائل الشّعبية، وإثارتها ولفت انتباه الجمهور إليها، والعثور على حلول مرضيةٍ لبعضها.
وهكذا، أصدرت محاكم جنوب أفريقيا الدمقراطية أحكامًا في قضايا هامة تتناول شؤونًا مثل فيروس مرض ضعف المناعة المكتسبة (الإيدز)، وظاهرة التشرّد، ومخصّصات الرفاه الاجتماعي. لقد أدّت المحاكم إلى إحداث تغيير كبير في حياة الملايين من النّاس.
لم يقم المحامون ولا المحاكم بإسقاط نظام الأبرتهايد. لقد قامت بذلك المقاومة الشّعبية، مدعومةً بحشد الضغوط الدوليّة. لكن من المنصف القول، وفي نظرة إلى الوراء، أنّ العمل القضائي ضدّ نظام الأبرتهايد لعب دورُا هامًا في إسقاط هذا النظام. ونحن نرى اليوم أنّ هذا العمل ترك إرثًا هامًّا، في الوقت الذي نسعى فيه إلى تعزيز دمقراطيتنا وتعميق جذورها.
لمزيدٍ من المعلومات:
مركز المصادر القانونية - www.lrc.org.za
محكمة جنوب أفريقيا الدستورية – www.concourt.gov.za
رتشارد ل، أبيل، السياسة بوسائل أخرى: القانون في النضال ضد نظام الأبرتهايد، 1980-1994 (نيويورك، روتلدج، 1995) ص 26-27.