الإبتعاد عن النّموذج الإسرائيلي
التغطية الأمريكية لقرار المحكم العليا في قضيّة لمّ شمل العائلات تأتي في سياقات مرتبطة بالأمن.
براد بروكس-روبين | مجلة عدالة الألكترونية، العدد 26، حزيران 2006
"يفهم الأمريكيّون، الآن، ما كان قد شعر به الإسرائيليّون طيلة سنوات".[2] في الأيّام التي أعقبت 11 أيلول 2001، أصبح أمرًا إعتياديًّا سماع تصريحات مثل هذا التّصريح الذي جاء على لسان موشيه فوكس، الموظّف في السّفارة الإسرائيليّة في واشنطن، أمام مجموعة من الطلاب في فرجينيا الغربيّة، وذلك بعد أسابيع فقط من هجمات 11/9. وباتَ أمرًا إعتياديًّا، أيضًا، سماع أنّ حكومة الولايات المتّحدة ستُضطرّ إلى البدء في إستخدام الوسائل والطرق التي تنتهجها الحكومة الإسرائيليّة منذ فترة طويلة في مكافحة الإرهاب.
ولم يمضِ وقت طويل على خطاب فوكس، حتّى قام إسرائيلي آخر بالتّحذير من العواقب التي قد تترتّب على اتّباع نموذج دولته. فالمؤرّخ توم سيجف، الذي كتب في Seattle Post-Intelligencer، قدّم قراءة مشوّقة للمشهد الأمريكي فور 11/9. [3] ورغم أنّه فهم الحاجة إلى التلويح بالعلم والغُلوّ في الوطنية اللذين برزا في تلك الأسابيع الأولى، واللذين شاهد مثلهما الكثير في إسرائيل، فقد حذّر سيجف من العواقب التي قد تترتّب، فعلاً، عن تبنّي النّموذج الإسرائيلي. "التجربة الإسرائيليّة"، كما كتب: "تبيّن بوضوح أنّ التّعذيب والتقييدات الأخرى المفروضة على الحرّيات المدنيّة لم تجلب مزيدًا من الأمن لتلك الدولة؛ لا بل جعلتها قمعيّة أكثر. نحن- الإسرائيليون- تعلّمنا كذلك أنّ فرض القيود على الحرّيات المدنيّة نادرًا ما يكون مؤقتًا، حتى لو كانت النيّة أن يكون كذلك؛ فمن السّهل جدًّا فرض تلك القيود، لكن من الصّعب جدًّا التخلّص منها."
بكلماتٍ أخرى، حذّر سيجف من أنّه بإنتهاج الطريق الإسرائيليّة لن يفهم الأمريكيون الشعور الإسرائيلي حول الإرهاب، وإنعدام الأمن فحسب، وإنّما أيضًا الشّعور الإسرائيلي بالعيش في مجتمع يتصاعد فيه القمع والسّلوك غير الديمقراطي بشكل متزايد.
الآن، ومع اقترابنا من الذكرى الخامسة لـ11/9، تكفي مجرّد قراءة إعتيادية لأيّ صحيفة أمريكيّة كي تُضفي مصداقيةً مخيفة على ذلك التحذير. المواضيع التّالية، التي تمّت تغطيتها في الأيّام الأخيرة القليلة من أيّار 2006، قد تكون، فعلاً، مأخوذة إمّا من صحف إسرائيليّة وإمّا من صحف أمريكيّة: تداولات حول الحدود المدجّجة بالجنود والجدار لحماية المواطنين؛ تعذيب الجيش وهيئات أمنيّة أخرى لمشتبهين بكونهم أعداء؛ تقارير عن هجمات قتل انتقاميّة إرتكبها جنود بحقّ مدنيين أبرياء ينتمون إلى مجموعة سكّانية تحت الإحتلال، وتدهور شبكة الخدمات الإجتماعيّة إثر تزايد المصاريف العسكرية المخابراتية، والمصاريف المتعلّقة بقضايا "الأمن".
وتماشيًا مع ذلك، فإنّ التغطية الأمريكية لقرار المحكمة العليا الإسرائيليّة في قضيّة لمّ شمل العائلات، وهي قضيّة تقع بصورة مُؤلمة ودقيقة على خطّ التّماس بين الحقوق الأمنيّة/المدنيّة، مثل أيّة قضيّة في أيّ من الدولتين، قد جاءت في صحيفتين من الصحف البارزة في الولايات المتّحدة، تحت عنوانَين متصلَين بالأمن. فقد حمل المقالان حول ذلك القرار في "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز" العنوانَين التّاليين على التّوالي: "إسرائيل تقتل قائد الجهاد الإسلامي خلال محاولة لإعتقاله"[4]، و"إسرائيل تجتاح مدن الضفّة الغربيّة، وتقتل ستة." [5] ورغم عنوانَي كلا المقالين، فقد كرّسا في الحقيقة غالبيّة نصّيهما لمناقشة قرار المحكمة في قضيّة لمّ شمل العائلات. ومع ذلك، يظهر أنّه، حتى في الصّحافة، يجب أن تكون السياسات والنشاطات الأمنيّة هي المُسيطرة.
والآن، وفي السّياق الإسرائيلي على الأقل، قامت وسائل الإعلام بتصوير الوضع لفترة طويلة على النّحو التّالي: الأمن فوق كلّ شيء. لكن، بعد 11/9، كما حذّر سيجف، أصبح الأمن هو سياسة وتعويذة وسائل الإعلام في الولايات المتّحدة، وهو الأمر القائم في إسرائيل منذ عقود.
إضافةً إلى ذلك، وبالضبط كما هي الحال في إسرائيل، فإنّ الجانب الأكثر حساسيّة من الأمن في الولايات المتحدة - بوصفه هدفًا دائمًا للسياسة أو مادة إخباريّة - هو غيابُه، عدم ملموسيّته، والسّعي وراءه. فطالما آمن الشّعب بأنّ الأمن غائب وأنّه بالتّالي ليس في مأمن، أو أنّه على الأقلّ لن يكون في مأمن غدًا، فمن المُرجَّح أن تظلّ الحكومة غير مقيّدة نسبيًا في السّعي وراء سياساتها المعلنة التي يمكن أن تصوغها عبر مصطلحات أمنيّة. فكيف يمكن تفسير سياسة لمّ شمل العائلات بغير ذلك، حيث إنّ تبرير الدولة لسياستها، وكذلك القرار القضائيّ الذي يُعيد النّظر في السياسة، متأصّلان في الخوف أكثر ممّا هما متأصّلان في الحقيقة؟
فمن ناحية، وبصفتي أمريكيًّا شاهد كيف يتحوّل مجتمعه إلى النّموذج الإسرائيلي، أعترف بتفهّمي للدافع الطبيعيّ لتطوير ودعم قرارات كتلك التي اتُّخِذت في قضيّة لمّ شمل العائلات. فعائلتي تسكن في منطقة العاصمة واشنطن؛ ونحن نقضي أيّامنا كلّها، تقريبًا، على بعد ثمانية أميال من البيت الأبيض، ولذلك فلو قيل لي إنّ فصل مواطنين أمريكيين عن زوجاتهم وأطفالهم سيحميني، ويحمي عائلتي، وزملائي، فمن المرجّح أنّني كنت، على الأقل، سأتريّث هنيهةً للتفكير فيما إذا كان من الممكن تبرير ذلك. كما أنّني أعتقد بأنّه سيكون لدى الكثيرين من الأمريكيين الآخرين ما يشبه ذلك الدافع الطبيعي الأوّليّ.
لكن، الدرس الذي يمكننا إستخلاصه من قرار لمّ شمل العائلات، وبالتّأكيد من مجمل السياسات والممارسات القائمة على الأمن لدى الحكومات الإسرائيلية وفي الولايات المتّحدة، يجب أن يكون مفاده؛ أنّه قد آن الأوان لتحرّك يتجاوز الدافع الطبيعي الأوّليّ، ويتجاوز القرارات النّابعة عن الخوف وليس الحقيقة. وفي النّهاية، ليس في إمكان أيّ قاضٍ من قضاة المحكمتين العُلْيَيَيْن في الولايات المتّحدة أو في إسرائيل، ولا في إمكان أيٍّ من أعضاء الكنيست أو الكونغرس، ولا في إمكان رئيس الوزراء ولا الرئيس الأمريكي إثبات وجود أمن حقيقيّ، ملموس ودائم. فليست هناك كلمات، ولا كميّة أسلحة، ولا سياسة إدارية يمكنها أبدًا أن تبلغني بثقة أنّني وعائلتي سنكون في مأمنٍ في أيّ يوم من الأيّام.
لكن، ما يستطيع أن يقوله لي أولئك المسؤولون هو إنّه مقابل البلاغات الأمنيّة الغامضة والمشكوك فيها، فإنّ حقوقي وحقوق زملائي المواطنين ستُداس. ستتمزّق أوصال العائلات. سيتمّ تعذيب النّاس. سيتحطّم المجتمع المدنيّ ويُصاب بالفقر. وسيتوجّب عليّ، كما سيقولون لي، أن أتعايش مع ذلك.
بالطّبع، إنّه لأمرٌ حتميٌّ أن يتوجّه الشّعب إلى الحكومة ملقيًا اللوم عليها، ومطالبًا إيّاها بتقديم الحلول وتوفير الأمان عندما يشنّ الإرهابيّون هجومهم ويصبح إنعدام الأمن أمرًا ملموسًا بصورة مأساويّة. ولربّما كانت تلك النزعة هي، أيضًا، جزءًا من المشكلة. وقد حذّر سيجف من أنّه عندما تبدأ الحكومة بالسير في طريق تآكل الحرّيات المدنيّة يصبح من الصّعب عليها التراجع عن ذلك. وقد يكون أحد أسباب ذلك أننّا، نحن - الشّعب - لا نقوم بما فيه الكفاية لمواجهة الحكومة، فنحن لا ننهض لوقف تآكل حقوقنا المدنيّة، أو مطالبة أولئك الذين يعملون بإسم الأمن بتحمّل المسؤوليّة. ولعلّ الذكرى الخامسة لـ11/9 تذكّرنا جميعًا بأنّ السياسات الحكوميّة التي تجري في عروق قانون حظر لمّ شمل العائلات لا تجعلنا آمنين. لكن، ما يجب علينا أن نتذكّره أيضًا هو أنّ الأمر متعلّق بنا - بكلّ واحد وواحدة منّا، وليس بمجموعة صغيرة من النّاشطين والمحامين فقط - في أن نتّخذ موقفًا وأن نطالب، أخيرًا، بالابتعاد عن النّموذج الإسرائيلي.
* براد بروكس – روبين هو محامٍ في واشنطن ومتمرّن سابق في "عدالة".
[2] John Shelton & Josh Jones, “Embassy Minister Speaks on Middle East at Marshall U.,” The Parthenon (Oct. 23, 2001).
[3] Tom Segev, “Modern Parallels Between U.S., Israel,” The Seattle Post-Intelligencer, p. B4 (Nov. 28, 2001).
[4] Scott Wilson, “Israel Kills Islamic Jihad Leader in Arrest Attempt,” The Washington Post, p. A10 (May 15, 2006).
[5] Greg Myre, “Israel Raids West Bank Towns, Killing 6,” The New York Times, p. 3 (May 15, 2006).