من النكبة إلى أبسوردستان
نظام ديمقراطي واحد، يعترف بالقيمة المتساوية لجميع المواطنين، من دون علاقة بانتمائهم الدينيّ أو الإثنيّ.
شريف حمادة* | مجلة عدالة الإلكترونيّة، العدد 48، أيّار 2008
احتفلت إسرائيل في أيار الفائت بمرور 60 عامًا على تأسيسها، حيث حضرت مجموعة مثيرة للإعجاب من السياسيين والمشاهير للتعبير عن تقديرهم لإنجازات الدولة. وكان ألمع النجوم الحاضرين في الاحتفالات الرسمية جورج بوش، الذي وصلت مدائحه لدولة إسرائيل حدّ الصياغات التوراتية. وفي أقواله أمام الكنيست، التي شملت اقتباساتٍ لثيودور هرتسل وللكتاب المقدس، وصف بوش الدولة اليهودية بأنها "منارة للأغيار". ولكن، وفي الوقت الذي كانت فيه إسرائيل ومؤيّدوها يهتفون لستة عقود من الاستقلال، كنا، نحن الفلسطينيين، نُحيي ذكرى كارثتنا، النكبة.
ويعني إحياء وتخليد ذكرى النكبة الاعترافَ بأنّ ستين عامًا على استقلال إسرائيل ترمز، أيضًا، لستين عامًا على الطرد الفلسطيني؛ بأنّ ستين عامًا على دولة إسرائيل تعني ستين عامًا على انعدام الدولة للفلسطينيين؛ وبأنّ ستين عامًا من الحرية لليهود في إسرائيل هي أيضًا ستون عامًا من انعدام الحرية للفلسطينيين.
لم يكن مُسلّمًا به دائمًا أنّ الفلسطينيين سيذكرون أنفسهم؛ إحدى المقولات الأكثر اقتباسًا من بين المقولات الكثيرة المنسوبة إلى دافيد بن غوريون، رئيس الحكومة الأول في إسرائيل، تعكس تجاهله لوجود فلسطينيين في نطاق المساحة التي تحوّلت إلى إسرائيل: "المُسنّون سيموتون والشباب سينسون". لقد أصاب بن غوريون جزئيًا، فقط: أربعة أجيال من اللاجئين وُلدوا منذ أن أطلق مقولته، وهم لم ينسوا بعد.
من بيت لاهيا إلى بيروت؛ من نابلس إلى نيويورك؛ ومن اللد إلى لندن، لا زلنا نتذكّر. نحن نتذكّر كيف قُسّم وطننا خلافًا لرغبة الأكثرية. نحن نتذكر كيف فرّت عوائلنا من بيوتها خوفًا من المجازر والاغتصابات؛ الآلاف طردتهم الميليشيات الصهيونية. ونحن نتذكر أنّه في الوقت الذي محت فيه حرب 1948 لأجل فلسطين وطننا عن الخارطة، فإنها لم تنجح في محو الشعور بوحدتنا كشعب.
ومن هذه الناحية، فإنّ عملية التذكّر هي عملية مقاومة، أيضًا. نحن نرفض الخنوع، نرفض الاقتراحات بأن نختفي؛ نحن لا نقبل بمحاولات "تبييض" أصلانيّتنا. نحن نطالب بتاريخنا عن طريق نشاطات بسيطة من المقاومة الثقافية، في الوطن والشتات.
وإقامة أرشيف النكبة على يد فلسطينيين في لبنان هو نشاط كهذا. والأرشيف، الذي كُشف عن قسم يسير منه أمام الجمهور الذي شارك في مهرجان السينما الفلسطيني في لندن، يضمّ شهادات مُصوَّرة لناجين من بين 750 ألف فلسطيني، الذين تحوّلوا إلى لاجئين في حرب 1948. واليوم توجد في الأرشيف حوالي 1000 ساعة من المقابلات مع ما يقرب الـ 500 لاجئ من أكثر من 130 قرية. كما يدير الأرشيف موقعًا ممتازًا على الإنترنت، وعنوانه: www.nakba-archive.org.
كما بدأ مشروع مُشابه نشاطَه في إسرائيل نفسها، حيث جمعت هناك السينمائية رنين جريس شهاداتٍ لنساء فلسطينيات تحوّلنَ إلى نازحات في حرب 1948. وكما أنّ حقيقة هدم الجيش الإسرائيلي في تلك الحرب لأكثر من 500 قرية فلسطينية واقتلاع سكانها تكاد لا تكون معروفة خارج العالم العربي، فإنّ مشكلة النازحين (اللاجئين الداخليين) –اقتلاع حوالي 40 ألف فلسطيني من بيوتهم ونقلهم إلى أماكن سكن أخرى في داخل إسرائيل- مَسكُوتٌ عنها هي أيضًا، إلى حدّ بعيد. لهذه المشاريع أهمية حيوية لأنها تمنح الصوت للمغمورين والمقموعين.
إلا أنّ هذه المشاريع تُذكّرنا أيضًا بحقيقة مُقلقة: النكبة لم تنتهِ. وما زالت الأصداء من العام 1948 تُسمَع من بين موجات الهجرة القسرية الأخيرة في أعقاب النزاعات في العراق ولبنان، حيث تحوّل فيها الفلسطينيون إلى لاجئين للمرة الثانية أو الثالثة أو الرابعة.
كما تُسمع أصداء 1948، أيضًا، في أكثر من 40 قرية "غير معترف بها" في النقب، التي ما زال سكانها، فلسطينيون مواطنو إسرائيل، ضحية للسّلب والاقتلاع والطرد. ومؤخرًا، عانى سكان القرية "غير المعترف بها" عتير أم الحيران، هدمَ بيوتهم في القرية، في الوقت الذي تستعد فيه السلطات الإسرائيلية لإخلائهم بغية بناء بلدة لليهود بدلا من قريتهم.
وما زالت أصداء 1948 تُسمَع، أيضًا، عند ضحايا العقابات الجمعيّة التي لا زالت تُرتكَب ضد الفلسطينيين. ونحن نجد التأثير الأكبر والبارز لهذه العقوبات في قطاع غزة المحاصَر والمُقاطَع، الذي يشكّل حوالي 70% من تعداد سكانه المليون ونصف المليون نسمة، من اللاجئين المُسجَّلين. وفي الضفة الغربية المحتلة يتواصل حاليًا البناء غير القانونيّ للمستوطنات ولجدار الفصل، ولهذه الأغراض تجري مصادرة أراضٍ من فلسطينيين ويجري نقلها إلى المستوطنين؛ كما يتواصل الفصل بين أبناء العائلة الواحدة ويتواصل سلب حرية تنقل وحركة الفلسطينيين في موطنهم.
وتثير منظومة الانتهاكات النابعة من كون الفلسطينيين معدومي دولة، سؤالا مفهومًا ضمنًا: إذا كانت النكبة متواصلة، فكيف ستنتهي؟ القلائل يؤمنون بأنّ الجواب كامن في قمة أنابوليس. ونحيل إلى اعتراف محمود عباس مؤخرًا: "لم يجرِ تحصيل شيءٍ في المحادثات مع إسرائيل". وكل جهود عباس وسلام فياض لم تكن كافية لضمان التدخل الأمريكي لأجل
إجبار إسرائيل على تطبيق التزامها بتجميد توسيع المستوطنات. ومع أنّ قرابة النصف مليون مستوطن يسكنون اليوم على الأراضي الفلسطينية المحتلة، إلا أنّ إسرائيل تواصل البناء لغرض زيادة عدد المستوطنين.
ومن اللازم أن يكون واضحًا، في هذه المرحلة، أنّ الاعتماد على كرم الأمريكيين ليس إستراتيجية للتحرّر القومي. وفي الوقت الذي تواصل فيه المستوطنات بالتوسّع بسرعة، فإنّ توقعات إقامة دولة فلسطينية عمومًا، وفي العام 2009 خصوصًا، تبدو سخيفة. إنسوْا فلسطين؛ ففي الوتيرة الحالية يجب اللجوء إلى الكتاب المنشور مؤخرًا، كي يكون بالمستطاع إيجاد اسم لما سيتبقى من الأراضي لإقامة دولة "مستقلة" عليها إلى جانب إسرائيل: أبسوردستان.
ولكن، لو رأينا أنّ حلّ الدولتيْن قد أكل الدهر عليه وشرب، فمن المفروض أن يحمل الدعمُ المتزايدُ لحلّ الدولة الواحدة، التشجيعَ للفلسطينيين والإسرائيليين على حدّ سواء. في نظام ديمقراطي واحد، يعترف بالقيمة المتساوية لجميع المواطنين، من دون علاقة بانتمائهم الدينيّ أو الإثنيّ، يمكننا أن نبدأ ببناء تاريخ جديد من التعاون والتعايش بسلام. بوسع دولة كهذه أن تكون "منارة للأغيار" بحقّ. وعندما ترسل دولة كهذه دعواتٍ إلى حفلة عيد ميلادها، فسيكون بوسع جميع سكانها أن يشاركوا في الاحتفالات.
* شريف حمادة هو مستشار سابق في قسم المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية، وقد شغل مهم محام زميل في عدالة. يعمل اليوم على استكمال دراسته القضائيّة في" لينكولن إين" في لندن