التهجير العصريّ
البيت الذي وُلدوا وترعرعوا فيه، ليس مُلكهم، ووجودهم في بيتهم هو "مخالفة للقانون" و"تعدٍّ على أملاك الدولة"
صلاح محسن | مجلة عدالة الالكترونية، العدد رقم 60، أيّار 2009
في تاريخ 14/05/1948 سقطت مدينة يافا؛ من قرابة المائة ألف فلسطيني عاشوا في المدينة حتى ذلك الحين، بقي أقلّ من أربعة آلاف شخص. وقد جرى جمع أهالي يافا في حيّ العجمي الذي أحيط بسياج شوكيّ، وفُرض عليهم حكم عسكري صارم. في العام 1949 أزيل الحكم العسكري عن يافا وفي العام 1950 ضُمّت يافا إلى نطاق بلدية تل أبيب لتصبح بلدية مُوحّدة، هي "تل أبيب-يافا".
وبموجب القانون الإسرائيلي، حُوِّلت جميع البيوت التي هُجّر منها أهالي يافا وأملاكهم وأراضيهم إلى مُلكية ما يُسمّى "حارس أملاك الغائبين". كما حُوّلت المسؤولية عن إدارة البيوت والعمارات والمباني التجارية إلى شركات حكومية، حيث قامت هذه الشركات بتأجير البيوت والشقق السكنية كمساكن شعبية رخيصة لمن يُعتبرون، بحسب القانون الإسرائيلي، مستحقي مساكن شعبية، من ضمنهم قسم كبير من أهالي يافا العرب، الذين فقدوا بيوتهم خلال الحرب.
في السنوات الأولى التي تلت النكبة، حاولت السلطات الإسرائيلية رفع نسبة السكان اليهود في المدينة. وعليه، قامت بتوجيه المهاجرين الجدد إليها، وحاولت بناء يافا كمدينة يهودية. في البداية، نجحت هذه السياسة في جلب عشرات آلاف المواطنين اليهود وتوطينهم في أحياء المدينة القديمة، وغالبًا ما جرى توطينهم في بيوت تعود مُلكيّتها إلى اللاجئين الفلسطينيين الذين هُجّروا من المدينة خلال النكبة. وفي بعض الأحيان قسّمت السلطات البيوت العربية الكبيرة إلى عدّة شقق سكنية، وأسكنت فيها عدة عائلات.
لم يمضِ طويلُ وقتٍ حتى بدأ المهاجرون الجدد بترك المدينة إلى أماكن أخرى في البلاد، نتيجة الإهمال الكبير الذي أثقل على يافا، إلى جانب قلة فرص العمل الجيدة ومستوى الخدمات والحياة المتدنييْن، الأمر الذي زاد من إهمال السلطات للمدينة. وهكذا تحوّلت يافا، تدريجيًّا، إلى مجموعة من أحياء الفقر ذات مستوى خدمات مُتدنٍّ، ومستوى جريمة واستعمال مخدرات عالييْن.
ورغم نسبة الزيادة الطبيعية العالية لدى سكان يافا العرب والهجرات الكبيرة التي وصلت إلى يافا من قرى المثلث والجليل، خلال سنوات الخمسينات والستينات، بحثا عن أماكن عمل في منطقة المركز، إلا أنّ البلدية لم تقم بتوفير أماكن سكنية إضافية في الأحياء العربية، كما فعلت في الأحياء اليهودية، مما أدّى إلى أزمة سكن خانقة.
لم يتمتع السّكان العرب بإمكانية الانتقال إلى الأحياء المجاورة لعدة أسباب، أهمها، أنّ الأحياء الأخرى تسكنها أغلبية يهودية وهي في الغالب مُعادية للعرب، وفي حالات معينة لم تتوفر لدى العرب أصلا إمكانية شراء منازل هناك لأنّ الشقق أُعِدَّتْ إمّا لمن خدم في الجيش وإمّا لمهاجرين جدد أو لمتديّنين يهود وفئات أخرى من اليهود. أضفْ إلى ذلك أنّ الأحياء البعيدة لا توفر الخدمات للمواطنين العرب، مثل المدارس العربية وأماكن العبادة، الخ.
وحتى العام 1985 مُنع أهالي يافا من إحداث أيّ تغيير على المباني التي يسكنونها. فسلطات التخطيط والبناء في البلدية لم تصدر أيّ تصريح لبناء بيوت جديدة أو لإضافات بناء على البيوت القائمة، أو حتى لترميم البيوت، حتى تحوّل قسم كبير من البيوت في أحياء يافا القديمة إلى بيوت رثة ومهترئة، وبعضها آيل للسقوط. وفي ظلّ غياب إمكانية استصدار أيّ نوع من أنواع تصاريح توسيع البيوت أو بناء بيوت جديدة، ومع عدم توفر أيّ حلّ للأزواج الشابة ولاحتياجات الزيادة الطبيعية، بدأت ظاهرة إضافة غرف جديدة على البيوت القائمة، أو بناء بيوت كاملة، من دون توفر التراخيص اللازمة. كما نمت ظاهرة أخرى انعكست في الدخول إلى البيوت الخالية في المدينة، وهي اليوم بملكية شركات الإسكان الحكومية، واستعمالها. وقد أطلق على هذه الظاهرة اسم "ظاهرة اقتحام المنازل".
وكثيرًا ما كان يفصل بين العائلات التي تعيش أزمة سكنية خانقة، وبين البيت الخالي والمهمل، حائط يمكن إزالته بسهولة، أو باب مغلق حتى. هذا الضغط الخانق، مع وجود غرف وبيوت فارغة وغير مستغلة، دفع الأهالي إلى "اقتحام" واستغلال هذه الأماكن، للتخفيف من أزمتهم. وفي أحيان كثيرة لم يعترض أحد على هذه "الاقتحامات"، وبقي الأهالي في البيوت والغرف الجديدة سنوات طويلة، حتى تحوّلت إلى جزء عضوي من بيوتهم وحيواتهم. وفي الغالب، لم يكن أبناء العائلة يعرفون أصلا أنّ البيت الذي وُلدوا وترعرعوا فيه، ليس مُلكهم، وأنّ وجودهم في بيتهم هو "مخالفة للقانون" و"تعدٍّ على أملاك الدولة"- كما ادّعت السلطات لاحقا.
في النصف الثاني من سنوات الثمانين وبداية سنوات التسعين، شهدت يافا حراكًا معماريًا وعقاريًّا جديدًا. ومع الوقت، بدأ مواطنون يهود بالتوجّه للسّكن في المدينة، هربًا من الكثافة السكّانية العالية في تل أبيب، وبحثًا عن بيوت جميلة مُطلة على البحر. وأدى هذا الاهتمام إلى ارتفاع في أسعار الأراضي والعقارات في يافا بشكل حادٍّ جدًا، وخاصة في الأحياء القديمة والمُحاذية للبحر. وأصبحت الشقق التي كانت مهمله ومتروكة حتى ذلك الحين، ذات قيمة اقتصادية عالية. وبالتالي، أضحت جميع الشقق التي دخلها أهالي يافا العرب وقطع الأرض التابعة للدولة، والتي بنيت عليها بيوت من دون تراخيص، أضحت الآن مَحطّ أنظار وأطماع جهات كثيرة.
في السنوات الأخيرة، قامت شركات الإسكان الحكومية ودائرة أراضي إسرائيل بجرد جميع المَواقع التي جرى فيها بناء غير مرخص، إلى جانب الشقق أو الغرف والمخازن التي "اُقتِحمَتْ" في يافا، والبالغ عددها قرابة الـ 500 موقع.
وتفرض الشركات الحكومية على "المُقتحِمين" غراماتٍ مالية عالية جدًا لا يستطيعون دفعها، غالبًا. وحينها، تضع الشركاتُ أصحابَ البيوت أمام أحدِ خياريْن: إما دفع الغرامات، وإما قيامها بإخلائهم من البيت وبيعه بالمزاد العلني. للوهلة الأولى، تمنح شركات الإسكان الحكومية الحقَّ لأصحاب البيت بأولوية شرائه، ولكنّ هذه الإمكانية غير واردة، كوْن أسعار البيوت عالية والسكان هم من الطبقات الفقيرة. وعندها، تقوم الشركات بعرض البيوت للبيع في السّوق الحرة ويجري بيعها لأصحاب رؤوس أموال وشركات خاصة، التي تهدم البيوت وتقيم عمارات فخمة من عدة شقق، مكانها. هذه الشقق تُباع في السّوق الحرّة بمئات آلاف الدولارات على الأقل. ورغم أنّ هذه الشقق تُباع في السّوق الحرّة وبإمكان العرب التقدّم للمناقصة وشراء البيت، إلا أنّ يدَ المواطنين العرب بعيدة عن نيْلها.
ويكاد هذا النوع من البناء أن يكون النوع الوحيد المسموح به: شقق سكنية فخمة من عمارات ذات طابقين أو ثلاثة طوابق. ومن المؤكّد أنّ هذا النوع من البناء الذي يُبنى على أراضٍ قامت عليها بيوت عربية، لا يخفف أزمة السّكن التي يعانيها المواطنون العرب في يافا، خصوصًا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنّ عدد سكان يافا العرب، اليوم، يقرب العشرين ألف إنسان. وهكذا، تتحوّل أحياء "العجمي" و"الجبلية" و"البلدة القديمة"، رويدًا رويدًا، من مناطق سكنية عربية تعجّ بالحياة، إلى أحياء يسكنها الأغنياء اليهود.
قد تبدو هذه العملية قانونية ومنطقية جدًّا ولا تميّز ضدّ أية فئة، حيث أنها تسري على الجميع من دون استثناء، عربًا أكانوا أم يهودَ: كُلّ من خالف القانون وبنى بيتًا من دون ترخيص أو اقتحم شقة أو غرفة ليست مُلكه، عليه أن يدفع الثمن لصاحب المُلك، وهو الشركات الحكومية ودائرة أراضي إسرائيل. لكن هذا ليس دقيقًا؛ فجميع أوامر الهدم والإخلاء أُصدرت بحق منازل تسكنها عائلات عربية، والغالبية العظمى ممّن يشترون البيوت الجديدة والفخمة التي تُبنى على أنقاض البيوت العربية التي تُهدم، هم من اليهود. وتدّعي السلطات الإسرائيلية أنّ "قوانين السّوق" هي التي تحكم هذه العملية وتديرها، إلا أنّ قوانين السوق، في هذه الحالة العينية على الأقل، ليست عمياءَ، بل لها عيون وبصيرة عنصرية تؤدّي إلى طرد العرب من بيوتهم، وتُسكِن مكانهم مواطنين يهودَ أثرياء.
أزمة السكن وتبعاتها ليست وسيلة الضغط الوحيدة التي تدفع بأهالي يافا العرب إلى خارج المدينة: الضرائب البلدية ترتفع باستمرار والأهالي يُطالـَبون بدفع رسوم غلاء الأراضي في المنطقة، كما أنّ أسعار إيجار البيوت ترتفع باستمرار، أضف إلى ذلك مستوى الخدمات والتعليم المتدنّي ونسبة الجريمة والمُدمنين على المخدرات المرتفعة، والشحّ في فرص العمل وإمكانيات التطوّر؛ كل ذلك يُحوّل يافا إلى مكان غير جذّاب للسّكان العرب، خصوصًا أنّ اليهود الذين يأتون للسّكن في يافا لا يعيشون فعلا في يافا وهم ليسوا جزءًا من المجتمع اليافيّ، بل يأتون إلى يافا للتمتّع بمنظرها الخلاب، ليس إلا.
خلاصة الموضوع أنّ السياسة الحالية تجاه يافا تؤدّي إلى زيادة عدد السكان اليهود في الأحياء القريبة من البحر وتقليل عدد السّكان العرب فيها. حتى لو لم يكن ذالك مكتوبًا أو مُعلنًا في أيِّ مكان، فإنّ ما يجري اليوم هو ترحيل صامت للسّكان العرب من يافا، أو على الأقل، من أحياء يافا القديمة والمُحاذية للبحر؛ من يافا الجميلة.
* الكاتب باحث ميداني في مركز عدالة