العلاقة بين الطبقية والقومية والحق بالمسكن
هل يشكّل التباين القومي والثقافي مبررًا كافيًا لإقامة بلدات منفردة على خلفية قومية؟
سهاد بشارة | مجلة عدالة الإلكترونيّة، العدد 11، آذار 2005
في شهر آب 2004 اتخذ مجلس دائرة أراضي إسرائيل القرار رقم 1051 في موضوع "إجراءات التوصية بخصوص قبول المرشحين لامتلاك حقوق استئجار طويل الامد, في الأراضي في البلدات الزراعية والبلدات الجماهيرية". تُخوّل هذه الإجراءات لجان القبول في البلدات الجماهيرية الصغيرة والبلدات الزراعية اخذ بعض المعايير بالحسبان عندما تقدم توصياتها بخصوص قبول أو رفض المرشحين الذين يرغبون السكن في هذه البلدات. صيغت شروط القبول, للوهلة الاولى, بشكل حيادي، وحددت إجراءات تكنوقراطية ، يفترض فيها أن تستبعد الشبهات بخصوص التوجهات الاعتباطية. على الرغم من ذلك، أدّعي بدوري أن "المهنية" التي تعكسها هذه الشروط ما هي إلا أداة طيّعة لخدمة مضامين ذات إشكالية، تُعزّز من الناحية العملية إقصاء المواطنين على خلفية الانتماء القومي، أو الطبقة الاجتماعية- الاقتصادية.
يبرز من بين شروط القبول التي وضعت لهذه البلدات، معياران اثنان بشكل واضح جدا. يتوجب على المرشح، حسب المقياس الأول، أن يملك " قدرة اقتصادية على إقامة بيت في البلدة، خلال الفترة التي حددتها اتفاقية التطوير مع الدائرة". وحسب المقياس الثاني، يتوجب على المرشح أن يكون ملائما للحياة الاجتماعية في مجتمع صغير داخل بلدة جماهيرية أو زراعية. ولإزالة الشبهات حول اعتباطية هذا القرار، تستلزم الإجراءات توجيه المرشحين الذين " يشتبه" بعدم ملائمتهم، إلى معهد خاص، يحدد الأخصائيون فيه إذا ما كان المرشحون يلاءمون الحياة الاجتماعية داخل مجتمع صغير أم لا. إضافة إلى ذلك، تضمن هذه الإجراءات مبدأ التمثيل، بهدف خلق التوازن بين مصالح المجموعات المختلفة، وضمان شراكة حقيقية في اتخاذ القرارات. وتحدد، بناء على ذلك، أن تتشكّل عضوية لجان القبول من: " في البلدة الجماهيرية [....]: صاحب منصب مرموق من قبل الموطّنة (الوكالة اليهودية أو الهستدروت الصهيونية)، صاحب منصب مرموق في وزارة البناء والإسكان، ممثل الجمعية التعاونية، ممثل المجلس الإقليمي وممثل الحركة الموَطّنة- في البلدات ذلت الصلة.[...] في البلدة الزراعية تكون تركيبة لجنة القبول حسب ما يتم تحديده من قبل مؤسسات الجمعية".
وطُرِحَ، في معرض تسويغ هذا القرار: "تقف في أساس إجراءات القبول، والتوصية بتخصيص الأرض وامتلاك حقوق فيها ، أهمية التماسك الاجتماعي، العطاء للمجتمع، والملائمة لأسلوب الحياة في البلدات الزراعية والبلدات الجماهيرية، التي تشمل أقل من 500 بيت مأهول، والتي [البلدات] تقام من قبل الوكالة اليهودية لأرض إسرائيل أو الهستدروت الصهيونية العالمية".
يسري هذا القرار على البلدات اليهودية المتّحدة في 44 مجلسا إقليميا، والتي تسيطر على ما يقارب 80% من مساحة الدولة[1] . ويسكن هذه البلدات حوالي 10% من سكان الدولة[2]، أما المؤشر الاجتماعي- الاقتصادي لغالبية هذه المجالس الإقليمية فهو بين المتوسط والمرتفع(عنقود 5-10).[3]
ظاهريا، تطبّق لجان القبول إجراءات منظّمة وشفافة ومهنية في اختيار المرشّحين، لكن فعليا، يستدل من المعطيات أن عملية الغربلة تتم حسب القومية والمكانة الاجتماعية- الاقتصادية، وحسب خلفية الاثنيه (يهود من اصل شرقي, غربي, اثيوبي روسي والخ ...). يسكن في البلدات القروية التي يسري عليها القرار[4] حوالي 475,500 من اليهود، 53،600 منهم فقط من أصل آسيوي، وحوالي 70،400 من أصل شمال إفريقي.[5]
يعاني المجتمع الإسرائيلي من شرخ على أساس قومي وإثني (خلفية اثنية- ثقافية). في مجتمع كهذا، لا يمكن لمصطلحات مثل " التماسك الاجتماعي" والملائمة للحياة الاجتماعية في البلدة" أن تتحلى بالحيادية. تشكّل اللغة والهوية القومية والثقافة مركبات بارزة في التباين بين اليهود والعرب. وبسبب وجود هذا الشرخ القومي، لن يستوفي المرشحون العرب مقاييس التماسك أو التلاؤم الاجتماعي، ويتوقع أن ترفضهم لجان القبول مستقبلا دون أن تتطرق لهويتهم القومية بشكل صريح. ولا يملك المرشحون العرب أي فرصة قبول لهذه البلدات، لأسباب إضافية كوجود ممثلين عن "الحركات الموَطِّنة" في هذه اللجان، وغياب الممثلين العرب عنها، وعدم النشر حول هذه البلدات في صفوف المواطنين العرب، والتخطيط لهذه البلدات لان تكون بلدات يهودية. تبتغي كل هذه الممارسات قبول المرشحين اليهود فقط، ولا تتوفّر أي نية صادقة وحقيقية لمنح فرصة متساوية لجميع المواطنين.
هل يشكّل التباين القومي والثقافي، اللذان قد يحبطا "الملائمة الاجتماعية"، مبرر كافي لإقامة بلدات منفردة على خلفية قومية؟ أعتقد أن الإجابة على هذا السؤال هي بالسلب، فنقطة الانطلاق الجديرة الوحيدة في هذه المسألة لا ترتكز إلى اعتبارات قومية، إنما على مبدأ العدل المصحِّح، أو باللغة السائدة، على التفضيل المصحّح. وحسب نقطة الانطلاق هذه، يتوجب على السلطات ان تمارس سياسة تفضيل مصحّح في مواجهة التمييز والغبن التاريخيين، وسياسة تعمل على تحقيق المساواة الجوهرية، أو المضي فيها قدما على الأقل.
أولا، لا يوفر الفصل على خلفية قومية، استجابة للتمييز الطبقي، الذي يرتبط بشرخ الخلفية الاثنية. وتشير المعطيات إلى أن الأصل الإثني للمرشح اليهودي يشكل اعتبارا حاسما في قرارات لجان القبول للبلدات الجماهيرية؛ ويتم تمويه وإخفاء هذا الاعتبار من خلال التسويغ الغامض بعدم الملائمة الاجتماعية، او من خلال منح الوزن الحاسم للمكانة الاجتماعية- الاقتصادية للمرشّح، بخلاف مبدأ العدل التصحيحي. ويتعارض مبدأ " التماسك والملائمة الاجتماعي- الاقتصادية" مع مبدأ المساواة لأنه يوسع الفجوات بدل تقليصها.
ثانيا، مبدأ العدل التصحيحي هو الذي يسوغ إقامة البلدات على أساس قومي عندما يدور الحديث عن أقلية قومية. ويجدر التوسع في هذا الموضوع. توضح روت غابيزون، في مقالها بعنوان " صهيونية في اسرائيل؟ في أعقاب قرار المحكمة العليا في قضية قعدان"[6] انه يحق للأغلبية اليهودية أن تشعر بالانتماء في بيئة ثقافية-لغوية وهَويّاتية داعمة، وتؤيد حق الأفراد الذين ينتمون للأغلبية باختيار أماكن السكن التي تحمل طابعا ثقافيا ملائما، وبيئة مريحة تحدد بدورها جزءا مهما من الهوية. من هنا، وحسب ادعائها، يمكن لـ"المميزات الخاصة" للبلدة أن ترتكز إلى عوامل مجتمعية وهوياتية. وحسب غابيزون، تشكّل سياسة الفصل على أساس الهوية الثقافية، أداة مشروعة بيد الأغلبية اليهودية من اجل المحافظة على هويتها اليهودية في دولتها، حتى لو اعتمدت سياسة الفصل هذه على مركبات قومية، كما يحصل في إسرائيل.
أدعي من ناحيتي، ردا على أقوال غابيزون، أن الأغلبية اليهودية تملك السيطرة الكاملة على جميع مؤسسات الدولة، بما في ذلك المؤسسات الثقافية والتربوية؛ وإنها تملك ناصية الثقافة المهيمنة، وتسيطر على رموز الدولة، وعلى كل ما يمكنه ضمان يهودية الدولة بالمفهوم الديمغرافي والجغرافي والثقافي. ليس واضحا، إذا من أين تستقي غابيزون المصادر لحق الأغلبية الخاص بالمحافظة على هويتها الثقافية. ترتبط التسويغات التي تطرحها غابيزون، في جوهرها، بمبدأ العدل التصحيحي، لكن هذا المبدأ أعدّ لتعزيز وتطوير مجموعات الأقلية والدفاع عن حقوقها، وليس لخدمة الأغلبية المسيطرة. وبديهي ان سياسة التفضيل المصحح تنتهج عادة من قبل المجموعة المهيمنة تجاه المجموعات التي عانت من الغبن والتمييز لفترة طويلة. لكن منهج غابيزون في المقابل، يوفِّر الشرعية للمجموعة المهيمنة في منحها لنفسها امتيازات متعددة من اجل المحافظة على جودتها او أفضليتها، مما يفرغ مبدأ حظر التمييز من جميع مضامينه.[7]
يعتبر مبدأ العدل التصحيحي كالخارج عن القاعدة لمبدأ حظر التمييز، وبكلمات أخرى، هنالك حظر على التمييز على خلفية الانتماء القومي والعرقي والجندري وما شابه، إلا بغرض تدعيم وتعزيز المساواة بعينها ( مثل تقليص الفجوات أو التمثيل اللائق). وليس من قبيل الصدفة أن لا يشتمل القانون الدولي على الاعتراف بحق الأغلبية المهيمنة بالمحافظة على ثقافتها عن طريق الفصل. يتوافر هذا الحق لمجموعات الأقلية القومية واللغوية والثقافية أو الإثنية، كجزء من حقها في الحفاظ على هويتها وأسلوب معيشتها و" منع 'ذوبانها القسري'".[8] الفرضية هي أن الأقلية تعاني من خطر فقدان هويتها وثقافتها، والخضوع لثقافة الأغلبية، وعليه، وبالرجوع إلى مبدأ العدل التصحيحي، ومن اجل تدعيم وتعزيز مبدأ المساواة بين الثقافات والهويات المختلفة، تُمنَحُ الأقلية بالذات حق المحافظة على ثقافتها من خلال الفصل، كما فُصِّل في المادة 27 للمعاهدة الدولية حول الحقوق المدنية والسياسية:
In those State in which ethnic, religious or linguistic minorities exist, persons belong to such minorities shall not be denied the right, in community with the other members of their group, to enjoy their own culture, to profess and practice their own religion, or to use their own language.
من هنا يُسوّغُ مبدأ العدل التصحيحي إقامة بلدات للعرب، لكنه لا يسوغ إقامة بلدات لليهود فقط.
وعلى الرغم من ذلك، حتى في هذه الحالة ، يضع مبدأ العدل التصحيحي، أمام الأقلية القومية عدد من المطالب ويحظر التمييز على أساس اجتماعي- اقتصادي أو على خلفية طائفية داخل بلدات الأقلية القومية. وحتى عندما تقام بلدات عربية لا يوجد مبرر لإنشاء بلدات عربية للأغنياء فقط. تبرر هذه المسوّغات إلغاء امتحانات "الملائمة" التي تقود إلى التمييز على خلفية طبقية.
يتضح مما ذكر أعلاه، ان القرار 1015 لمجلس دائرة أراضي إسرائيل ما هو إلا محاولة أخرى للالتفاف على مبادئ المساواة والعدل التوزيعي، التي حُدِّدُت في قرارات المحكمة العليا في قضية قعدان[9]. وفي قضية "هكيشت هديموكراطيت همزراحيت"[10].
يزداد تطرف قرار الدائرة حدة، إزاء الحقيقة بأن الحديث يدور عن توزيع كمية كبيرة جدا من الأراضي (كما ذكرنا- ما يقارب 80% من مساحة الدولة)، بما يتجاوز مبدأ العطاء العلني المفتوح. يصبح الاستثناء- إذا- هو القاعدة، وتتحول منظومات الغربلة التي أُعدّت ظاهريا لضمان التماسك الاجتماعي، إلى جهاز لتوزيع معظم موارد الأرض في الدولة بمنأى عن مبادئ المساواة المتعارف عليها، والتوزيع العادل للأراضي.
حددت المحكمة العليا في قرار حكمها في قضية "هكيشيت همزراحيت" العدل التوزيعي كمبدأ أساسي. على الرغم من ذلك، يتوجب تطوير هذا المبدأ كي يصبح بالإمكان إسقاط الإجراءات التي تمكن مجموعة صغيرة نسبيا من المواطنين اليهود، ممن ينتمون للطبقة الاجتماعية - ألاقتصادية المتوسّطة حتى العليا، من السيطرة على موارد الأرض، وتقوم لهذا الغرض بعملية الغربلة على خلفية اجتماعية، واقتصادية وقومية أو اثنية. يجسد قرار رقم 1015 الذي اتخذه مجلس دائرة أراضي إسرائيل، بشكل فعلي، الأهمية الفائقة في ربط مبدأ المساواة التصحيحية بمبدأ العدل التوزيعي.
الصورة:
[2] معطيات مستقاة من الكتاب الإحصائي السنوي لإسرائيل، رقم 55(2004) جدول 2.13.
[3] www.cbs.gov.il أنظروا خارطة المجالس الإقليمية حسب المستوى الاجتماعي- الاقتصادي للسكان، والمعروضة في نهاية هذا المقال.
[4] حسب القرار، هذه البلدات الجماهيرية هي التي تقيمها "الوكالة اليهودية أو الهستدروت الصهيونية العالمية.[...] والتي لا يتعدى عدد البيوت المسكونة [فيها] الخمسمائة بيت،كيبوتسات،قرى تعاونية، مستوطنات عمالية وجمعية تعاونية زراعية".
[5] الكتاب الإحصائي السنوي لإسرائيل، رقم 55(2004) جدول 2.22.
[6] روت غابيزون،"صهيونية في إسرائيل؟ في اعقاب قرار المحكمة العليا في قضية قعدان" . مشباط وميمشال (القانون والحكم)، المجلد رقم 6، الكراس رقم 1، تموز 2001، ص 25.
[7] أنظروا مثلا البندين 1 و-3 في المعاهدة الدولية لاقتلاع جميع أشكال التمييز العنصري. وتحدد المادّة رقم 1 (1) ما يلي:
“In this Convention, the term ‘racial discrimination’ shall mean any distinction, exclusion, restriction or preference based on race, color, descent, or national or ethnic origin which has the purpose or effect of nullifying or impairing the recognition, enjoyment or exercise, on an equal footing, of human rights and fundamental freedoms in the political, economic, social, cultural or any other field of public life.”
وتحدد المادة رقم 3 ما يلي:
“States Parties particularly condemn racial segregation and apartheid and undertake to prevent, prohibit and eradicate all practices of this nature in territories under their jurisdiction.”
[8] حول هذا الموضوع، راجعوا أقوال القاضي براك في م.ع. 95/6698، عادل قعدان وآخرون ضد دائرة أراضي إسرائيل وآخرين ، مجموعة قرارات المحكمة العليا المحلد 54 (1)،258،297.
[9] من بين الأمور التي حددها قرار الحكم في قضية قعدان، وعلى الرغم من الانتقادات الجديرة التي واجهها، ما يلي: "يتم الإخلال بواجب الدولة أن تنتهج المساواة في تخصيص الحقوق في الأراضي إذا ما قامت الدولة بنقل الأراضي لجسم ثالث، يقوم بدوره بالتمييز في تخصيص الأرض على خلفية الدين أو القومية. ولا تستطيع الدولة التحرر من واجبها القانوني بانتهاج المساواة في تخصيص الحقوق في الأرض من خلال استخدام جسم ثالث يمارس سياسة التمييز. وفعلا، لا تستطيع الدولة أن تفعل بشكل غير مباشر ما يحظر عليها القيام به بشكل مباشر." م.ع. 95/6698، عادل قعدان وآخرون ضد دائرة أراضي اسرائيل وآخرين، مجموعة قرارات المحكمة العليا المحلد 54 (1)،258, 283. للإطلاع على وجهة نظر نقدية تجاه قرار الحكم في قضية قعدان، أنظروا حسن جبارين "الاسرائيلية التي" تتوقع مستقبل" العرب حسب الزمن اليهودي-الصهيوني، في حيز يغيب عنه الزمن الفلسطيني" مشباط ميمشال (القانون والحكم)، المجلد رقم 6، الكراس رقم 1، تموز 2001، ص 53.
[10] م.ع. 99/3939، كيبوتس ساديه ناحوم وآخرون ضد دائرة أراضي إسرائيل وآخرين، مجموعة قرارات المحكمة العليا 56(6) 25.