مقابلة مع القسّ شحادة شحادة حول يوم الأرض الأول
القسّ شحادة: "لم يسمح لي إيماني بأن أتنحّى جانبًا"
شريف حمادة | مجلة "عدالة" الإلكترونية، العدد 11، آذار 2005
تحلّ في الثلاثين من آذار العام 2005 الذكرى السّنوية التاسعة والعشرون ليوم الأرض– الاحتجاج الجماهيري المنظّم الأوّل للمواطنين العرب في إسرائيل، الذي يتمّ إحياء ذكراه الآن كيومٍ وطنيّ للفلسطينيين في كافة أرجاء العالم. شريف حمادة[1] من عدالة يلتقي القسّ شحادة شحادة، القسّ الناشط الذي كان من أبرز قيادة الاحتجاج الأوّل في العام 1976.
القس شحادة هو رجلٌ قلقٌ. "النّاس هنا ليسوا سعداء،" يقول مشيرًا إلى الأقليّة الفلسطينية في إسرائيل. "إنّني متفائل دائمًا وأصلّي دائمًا من أجل السّلام وأعمل من أجل السلام – حتّى إنّ لدينا لجنة تُدعى "رجال دين من أجل السلام" – لكن في هذا الوقت، إنني متشائم جدًا."
يقضي القس شحادة، إبن الـ 65 عامًا، لحظة يفكّر فيها، بشكل صريح، ما إذا كان في الإمكان عزو تشاؤمه لسنّه قبل أن يلغي هذه الإمكانيّة، ليقول أخيرًا: "لا أعتقد أن السّبب هو سنّي، أعتقد أنّها تجربتي."
يتمتّع القس شحادة بتجربة غنية تفوق تجارب كثيرين. فهو يخدم، حاليًا، ككاهن في كنيسة مار يوحنا الأسقفيّة، ويترأس مدرسة مار يوحنا في حيفا، ويشغل منصب نائب رئيس مجلس الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، فلدى القس الدكتور شحادة شحادة تاريخ حافل يجمع ما بين مسؤولياته الرعوية وبين العمل السياسي. قبل حوالي ثلاثين عامًا، كان القس شحادة، الذي ترأّس لجنة الدفاع عن الآراضي، هو مَن قادة أول احتجاج جماهيري منظّم للأقلية الفلسطينية في إسرائيل ضد الطريقة التي تعامل بها الدولة مواطنيها العرب.
في الثلاثين من آذار العام 1976، أعلن القسّ شحادة وزملاؤه الناشطون في اللجنة عن إضراب شامل للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، وقاموا بتعبئة المجتمع بغية التأكيد على حقوقه وعلى هويّته من خلال العمل الجماعي المباشر. وكما يروي القس، كانت النيّة من وراء الإضراب الشامل أن يكون بمثابة احتجاج سلميّ ضدّ مخطّط الحكومة الدّاعي إلى مصادرة أكثر من 20,000 دونم من الأراضي، يقع معظمها في الجليل ، وكذلك في النقب والمثلّث، أي في الجنوب ومركز البلاد على التّوالي.
كانت مصادرة الأراضي هي السّمة البارزة في توجّه إسرائيل التّمييزي في ما يتعلّق بقضايا الأرض والتخطيط منذ تأسيسها قبل نصف قرن ونيّف. فيقدّر أنّ نحو ستّة بالمائة فقط من أراضي فلسطين التاريخية كانت بملكيّة يهودية عشية إقامة الدولة في العام 1948. وتمّت خلال السنوات الـ 56 الماضية مصادرة قطاعات واسعة من الأراضي التي يملكها العرب، بشكل منهجي، أو تمّ الاستيلاء عليها بموجب القانون لتصبح ملكًا للدولة أو للمؤسّسات الصّهيونية المفوّضة بالعمل من أجل مصلحة الشّعب اليهودي بشكل حصريّ، مثل الوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي. لقد أدّت هذه القوانين والسياسات إلى سيطرة الدولة على أكثر من 93 بالمائة من الأراضي في إسرائيل.
يعتبر القسّ شحادة أنّ محاولة تجريد الفلسطينيين من أراضيهم عبر مصادرتها هي مجرّد تكتيك تستخدمه إسرائيل في سعيها الدؤوب نحو "أقلّ ما يكون من العرب وأكثر ما يكون من الأرض." وهو يقول "إنّهم يفعلون الشيء نفسه حتى في الضفة الغربية وقطاع غزة. فهم يجعلون الحياة صعبة على الناس لكي يرحلوا، ثمّ يقومون بمصادرة المزيد من الأرض."
إعتبرت الحكومة الإسرائيلية، في العام 1976، أن مصادرة الإراضي في مناطق الجليل، النقب والمثلث، حيث بقيت مجموعة كبيرة من الفلسطينيين، هي أمر هامّ جدًا لدرجة أنّها ردّت على الإضراب الاحتجاجي المنظّم بقوّة عسكرية وشُرَطيّة ساحقة. ومع انتهاء أحداث هذا اليوم، انتهى ما كان قد بدأ كاحتجاج شامل بقتل ستّة مواطنين فلسطينيين عُزّل في إسرائيل؛ في سخنين، عرّابة، كفر كنا والطيّبة، وبجرح وإصابة عشرات آخرين.
يحيي الفلسطينيون سنويًّا ذكرى يوم الأرض، كما أطلق عليه حينها، على جانبي الخطّ الأخضر وفي الشّتات. عمليًّا، يشكّل هذا اليوم، الذي يتم إحياء ذكراه بالإضرابات والمسيرات، يومًا وطنيًا للفلسطينيين في كافة أرجاء العالم، وأحد أهمّ الأيّام في تقويمهم.
تعود جذور يوم الأرض، على غرار العديد من الأحداث التاريخية في الشّرق الوسط، إلى نشاطات مجموعة صغيرة من الأفراد الملتزمين. لقد دُعي إلى اللقاء التنظيمي الأوّل، الذي عُقد في حيفا ونظّمه الحزب الشيوعي ، 25 شخصًا لمناقشة استراتيجيات لمناهضة مخطّطات الحكومة الرامية إلى مصادرة المزيد من الأراضي الفلسطينية. وكان من بين المدعوّين القسّ شحادة؛ قسّ في السّادسة والثلاثين من العمر من شفاعمرو لم يكن منتميًا لأيّ حزبٍ من الأحزاب السياسية، وكما حضره شخصيات وطنية أخرى.
يصف القسّ شحادة قراره بشأن المساهمة في احتجاج يوم الأرض الأوّل، أمام جهود المصادرة الحكومية، بأنّه التقاء ندائيه الباطنيين الديني والسّياسي. ويقول القسّ "إنّني قسّ، وأنا أؤمن أن على القسّ أن يفهم ألم النّاس. يتألم الناس عندما تؤخذ أراضيهم منهم. إنّ ذلك مثله مثل انتزاع عضو من جسدهم. إنّه مؤلم جدًّا ... لم يسمح لي إيماني بأن أتنحّى جانبًا."
أخذ التحرّك ضدّ مصادرة الأراضي المخطّط لها يكتسب زخمًا أكبر، وذلك بالتعاون مع آخرين من ذوي التفكير المشابه. قام الناشطون بدعوة رؤساء المجالس المحلية في الجليل والمثلث لاجتماع ثانٍ عُقد في الناصرة واستضافه المناضل ورئيس البلدية آنذاك، المرحوم توفيق زياد، وذلك حرصُا منهم على إشراك القرى ذات الأراضي المستهدفة وفقًا لمخططات الحكومة. ووفق ما يتذكره القسّ شحادة، فقد حضر الاجتماع أكثر من 100 شخص، وغادروه مصمّمين على أنّهم سيحولون دون تنفيذ المُصادرة المخطّط لها – "بكلّ طريقة ممكنة."
قرّرت اللجنة الآخذة في الاتساع والتطوّر، في اللقاء الثاني أيضًا، الشّروع بحملة منظّمة لإعلام الجمهور الفلسطيني كافة في إسرائيل بأنّ التنظيم جارٍ على قدم وساق للدّفاع عن أراضيهم ضدّ الجهود التي تبذلها الحكومة لمصادرة أراضيهم. وبدأت المجموعة بتوزيع الكراسات والمناشير في أرجاء البلاد معلنةً عن تاريخ الاجتماع الشعبي الذي سيتمّ عقده في سينما الناصرة حول المصادرة المزمع لها.
تباطأت وتيرة السّرد لدى القسّ شحادة عندما تذكّر انذهاله الشّديد من تجاوب الجمهور الفلسطيني في إسرائيل. وقال كما لو أنّه لا يزال يحاول فهم مدى عمق الاهتمام الجماهيري: "كان الاجتماع جبّارًا. لم نكن نتوقّع ذلك. لم نتوقّع أن تحضر الجماهير بهذه الأعداد. لقد قَدمت آلاف مؤلّفة من النّاس. كانت دار السينما تتّسع لـ 300 أو 400 شخص، لكن الناس تجمهروا في أروقة البناية وفي جميع الشّوارع المحيطة بها."
لقد اتّضحَ أنّ مثل هذا الدّعم الشّعبي سيشكّل أكثر موارد اللجنة قيمةً. لم تتلقّ الرّسائل التي كتبتها اللجنة إلى أعضاء الكنيست أيّ ردود تذكر، واقتصرت نتيجة اجتماع مرتجلٍ مع حزب العمل الحاكم في الكنيست على تأكيد الحزب أنّه لن يعيد النّظر في مخطّطاته الرامية إلى مصادرة الأراضي الفلسطينية الخاصة.
في أعقاب ذلك، ردّ القسّ شحادة وزملاؤه من أعضاء اللجنة على تعنّت الحكومة بتنظيم حملة شعبية واسعة – زيارة القرى التي كانت ستتضرّر من المصادرة، إبلاغ السكان بالمخطّطات وعواقبها المتوقّعة، وحتى تصوير قطع الأراضي المزمع مصادرتها، وإرسال الوثائق إلى المجالس المحلية في القرى لتتمّ مناقشة القضيّة. ويقول القس شحادة: "كنت أذهب إلى اجتماعات شعبية ثلاث أو أربع مرّات في الأسبوع لإبلاغ النّاس بأننا نعتزم تنظيم إضراب إذا لم تصغِ الحكومة لنا."
بعد ذلك، في 18 آذار من العام 1976، وقبل 12 يومًا فقط على الإضراب المخطّط له، كان من المقرّر أن يحضر القس شحادة شحادة اجتماعًا في شفاعمرو مع رؤساء المجالس المحلية الذين تمّت دعوتهم لمناقشة الإضراب الذي خطّطت له اللجنة. وسرعان ما أصبح واضحًا أن الرؤساء توقعوا أن تحترم اللجنة قرار رؤساء المجالس بشأن الإضراب، والإذعان لقرارهم. وكما يروي القس شحادة، فقد صوّتت الأغلبية من رؤساء المجالس المحلية ضدّ الإضراب، ولكن ليس قبل أن يندفع القسّ خارج المبنى احتجاجًا على فكرة أنّه يجب على اللجنة أن تذعن لرؤساء المجالس المحليّة ، بدلاً من الاصغاء مباشرة للنّاس.
عبّر الشّعب عن إرادته. وبحسب القسّ شحادة، عندما علم الشباب بقرار رؤساء السلطات المحلية الذين كانوا ينتظرونه، بدأوا بإلقاء الحجارة على مبنى البلدية الذي اجتمع فيه رؤساء السلطات المحلية لمناقشة القضية، ومنعوهم من الخروج منه. وفي خضم احتدام الاحتجاج، اندفعَ أفراد الشرطة من مبنى قريب كانوا يختبئون به "وبدأوا بمهاجمة هؤلاء الشباب وإلقاء القنابل المسيّلة للدموع عليهم."
عقدت اللجنة في تلك الليلة، كما يقول القس شحادة، اجتماعًا طارئًا في سخنين، أعلنت في أعقابه عن نيتها في تنظيم عمل احتجاجيّ في 30 من آذار ضدّ الحكومة.
تمّ إلغاء الخطّة الأصليّة الداعية إلى تنظيم مظاهرة خارج مبنى الكنيست في اللحظة الأخيرة، عندما رُفض طلب اللجنة الحصول على تصريح بالتظاهر. وبدلاً من المخاطرة بالاعتقالات الواسعة في صفوف جمهور مؤيّديها، حثّت اللجنة النّاس على التّعبير عن معارضتهم للمصادرة المتواصلة لأراضيهم من قبل الدولة بواسطة الإضراب والبقاء في البيت في قراهم.
إثر ذلك، وفي السّاعات المبكّرة من صباح الثلاثين من آذار العام 1976، تلقّى القسّ شحادة مكالمة هاتفية تنذره بالمستجدّات ومفادها أنّ الدولة أمرت بدخول الجيش إلى القرى التي أعلنت الإضراب. وردّ السكان على هذه الخطوة بإلقاء الحجارة وبالمظاهرات العفوية، في الوقت الذي أخذ فيه الجيش يستخدم الرصاص الحي، الأمر الذي أدّى إلى عواقب وخيمة.
إن لجوء الدولة في ذلك اليوم لمواجهة عنيفة مع المضربين، وفقًا للقس شحادة، كان مجرّد مثال على الإستراتيجية طويلة الأمد التي تستخدمها حكومات إسرائيل للسيطرة على الفلسطينيين على جانبي الخطّ الأخضر. وهو يقول "لقد كانت السياسة الإسرائيلية، دائمًا، معاملة الفلسطينيين بالقبضة الحديدية. إنّني أعرف ذلك، وقد سمعت ذلك مرّات عديدة، حتّى من قبل أفراد الشرطة. وهم يقولون، ’يمكن التعامل معكم بالقوّة فقط. إنّكم لا تعرفون ما هي الديمقراطية’، إذًا، هكذا تتمّ معاملتنا."
على الرغم من العنف، فإن القسّ شحادة يقدّر أن نحو 70 أو 80 بالمائة من الجمهور الفلسطيني في إسرائيل شارك في الإضراب في 30 آذار العام 1976. وهو يلخّص معنى ذلك بالنسبة إلى الفلسطينيين في إسرائيل بافتخار عبر الاقتباس من صديقه الراحل صليبا خميس: "في يوم الأرض، خرج المارد من القمقم".
مع اقتراب حلول الذكرى التاسعة والعشرين من يوم الأرض، أوّل ما يشغل بالَ القسّ هو انتزاع الأرض، الذي يقول عنه إنّ الدولة تقوم به الآن في الضفّة الغربية من خلال بناء الجدار الفاصل، والتفرقة التي تخطّط الحكومة لها بين الفئات العقائدية المختلفة في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل.
يصف القسّ شحادة إسرائيل بأنّها تستخدم الأسلوب الكلاسيكي "فرّق تسدْ" مع المواطنين الفلسطينيين، مستشهدًا بالصدامات الفلسطينية الداخلية التي وقعت بين الدروز والمسيحيين في المغار، كمثالٍ على ذلك.
ويقول القسّ شحادة: "إنّه مرض رهيب يصيب الحياة الفلسطينية في هذه البلاد، وقد نجح يوم الأرض، إلى حدّ ما، ولفترة زمنيّة ما، في إزالة هذه الأنواع من الاختلافات بين الفلسطينيين أنفسهم. لكن، ولسوء الحظّ، نجحت الحكومة في تفريقنا مرّة ثانية، ولم يعد يوم الأرض يوحّد النّاس كما كان يفعل في السابق."
إنّ إرث يوم الأرض والقيمة النّابعة من إحيائه لا يقتصران، في ما يتعلّق بالفلسطينيين في الوقت الرّاهن، على حقيقة أنّه تم حث الأقلية الفلسطينية في إسرائيل على القيام بعمل موحّد ضدّ سياسات الدولة المميّزة فحسب، بل إنّه كشف، من خلال القيام بذلك، عن مأساة الفلسطينيين المشتركة في كلّ مكان.
يقول القسّ شحادة إنّه "من دون الأرض ليس لنا أيّ جذور في هذه البلاد. إنّ الأرض هي جذورنا. الأرض ليست فقط مكانًا تزرع فيه الباذنجان والخيار – إنها بيتنا الوطني. إنّني فلسطيني وهذا هو وطني."