دستور جديد لبوليفيا: حماية حقوق الشعوب الأصلانيّة “Ios Pueblos Originarios”
مقابلة مع رينيه أنتيزانا، مركّز المشاريع في منظمة " القوة المحلية" لتنظيم وتطوير منظمات محلية شعبية في بوليفيا
مجلة عدالة الالكترونية، العدد رقم 57، شباط 2009 | مقابلة مع رينيه أنتيزانا، مركّز المشاريع في منظمة " القوة المحلية"، منظمة عضو في "ائتلاف المنظمات للعمل الجماهيري"، والتي تهدف إلى تنظيم وتطوير منظمات محلية شعبية في بوليفيا
تُعتبر دمقرطة وصياغة الدستور أمران متلازمان عمومًا، حيث إنّ تصاعد حركات الإصلاح الديمقراطيّ حول العالَم كان مصحوبًا بضغوط لإجراء إصلاحات دستوريّة. إنّ أكثر من نصف الدساتير الوطنيّة القائمة قد صيغت، أو أُعيدت صياغتها، خلال السنوات الثلاثين الأخيرة.[1] وتُعتبر القضايا المؤسّساتية، مثل فصل السلطات، وبنية السلطتين التنفيذية والقضائية، بمثابة مكونات رئيسيّة في سيرورة صياغة الدستور. يُمكن للخيارات الإجرائيّة أن تؤثّر على شرعيّة الوثيقة النهائيّة وعلى محتواها، أيضًا. وكما أشار أستاذ كليّة القانون في جامعة ييِل، بروس أكِرمان، فإنّ " حتى الدستور القابل للتنفيذ هو عديم جدوى إلا إذا تمكّن )واضعوه) من جعله مقبولاً(على المواطنين)...."[2] حيث أقرّ الباحثون بهذا المبدأ وبأهميّة المشاركة والتداول الشعبيين.
أُجريَت الانتخابات الرئاسيّة البوليفيّة في 18 كانون الأوّل 2005. وقد كان إيفو مورالِس أياما من "الحركة نحو الاشتراكيّة"، وجورج كويروغا، رئيس حزب القوة الديمقراطيّة والاجتماعيّة، هما المرشّحين الرئيسيّين. فاز في الانتخابات مورالِس أياما، الذي ينحدر من عائلة أصليّة (أصلانيّة) من مربِّي نبتة الكوكة، بنسبة %54 من الأصوات، وهي أغلبيّة مطلقة وغير مسبوقة في نظام انتخابات بوليفيا متعدّد الأحزاب.
منذ الغزو الإسبانيّ في بداية سنوات الـ1500، حكمت هذه المنطقة من أمريكا الجنوبيّة، التي تقطنها أغلبيّة سكانيّة أصلانيّة، سلالة مهاجرين أوروبيّين، باستثناء عددٍ صغيرٍ من حُكّامٍ مِستيزو (خليطٌ أوروبيّ وأصليّ). وقد أعلن أياما، أول رئيسٍ أصليّ للدولة، انتهاء 500 عام من الاستعمار، وأن حقبةً من الاستقلال قد بدأت. وكان أوّل التغييرات الهامّة التي أجراها هي صياغة مسوّدة دستور جديد تضمن حماية حقوق الشعوب البوليفيّة الأصليّة.
يُفرّق الدستور الجديد بين النموذج التمثيلي القديم للديمقراطيّة، وبين نموذجٍ جديد، تشاركيّ وجماعيّ. حيث يدعو هذا الدستور إلى سيادة قوميّة تعدّديّة، تعدّديّة ثقافيّة حقيقيّة، الاعتراف بالاختلافات المتعدّدة بين الثقافات، و"الوحدة في الاختلاف". ونتيجةً لذلك، تم منح مُجتمعات الشعوب الأصليّة حقوقًا دستوريّة لحكمٍ ذاتيٍّ محليّ، بحيث ترتكز إجراءاتها القضائيّة الخاصّة على العادات والتقاليد الأصليّة. يدعو دستور بوليفيا الجديد إلى تعدديّة قضائيّة في إطار "محكمة عدل دستوريّة متعدّدة القوميّات" مقترَحة.[3]
في ما يلي بعض النقاط البارزة في دستور بوليفيا:[4]
1. دولة وحدوية، متعدّدة القوميّات، مجتمعانيّة وديمقراطيّة.
2. تتمتع كل الشعوب الـ36 بحقوق متساوية وبحُكم ذاتيّ منطقي؛ أي، سلطة ديمقراطيّة لا-مركزيّة.
3. تأميم الموارد الطبيعيّة وسيطرة الدولة على الموارد الطبيعية.
4. ثلاثة أشكال من الملكيّة الاقتصاديّة: عامّة، خاصّة ومجتمعانيّة - سارية المفعول، اقتصادٌ مختلَط يتوافق مع رؤية رأسماليّة إنديزيّة/أمازونيّة.
5. تدخّل الدولة في قطاعات الاقتصاد الإستراتيجيّة، بحيث يكون الاستثمار الخاصّ الأجنبيّ تابعًا لخطط التطوير الوطنيّة.
6. إصلاح زراعيّ مع مصادرة أملاك كبيرة من طبقات لديها أراض شاسعة (لاتيفونديا).
7. إعادة الانتخابات وعزل أيٍّ من المسؤولين المنتخَبين بواسطة تفويضٍ شعبيّ - وتم تطبيق ذلك فعلاً في 10 آب 2008، عندما تمّت الموافقة على مطلب المعارضة بإجراء استفتاء، وقد أيّد %67 من الأصوات بقاء إيفو مورالِس رئيسًا؛ كما فاز مؤيّدو إيفو بالحكم عدّة مرّات، في حين ازدادت نسبة التصويت في بعض الدوائر التي سبق أن خسروها لصالح المعارضة اليمينيّة.
8. انتخاب السلطة القضائيّة؛ الاعتراف بالنماذج المجتمعانية والموروثة لحلّ النزاعات.
9. برلمان متعدّد القوميّات في هيئة واحدة - نافذ المفعول، إلغاء مجلس الشيوخ المؤلّف من الأعيان.
10. رعاية صحيّة وتعليم مجّانيّان ومتساويان؛ وضع نهاية للأميّة.
11. استبدال العاصمة لاباز بسوكر (تنازل للمعارضة اليمينيّة).
12. حظر التمييز القائم على أساس الجنس، اللون، السنّ، الميل الجنسيّ، الهويّة الجندريّة، الثقافة، القوميّة، الدين، الأيديولوجيا، المحدودية الجسديّة أو الحمل.
13. حظر تواجد قواعد عسكريّة أجنبيّة.
14. مياه صالحة للشرب كحقّ إنسانيّ.[5]
أجريَت المقابلة التالية مع السيّد رينيه أنتيزانا بمناسبة إنشاء دستور جديد لبوليفيا، والذي خضع لاستفتاءٍ شعبيّ في 25 كانون الثاني 2009.
ماذا كانت أكثر الأسباب إلزامًا لصياغة الدستور الجديد؟
لقد كانت الدعوات الأولى لإنشاء مجلس تأسيسيّ في العام 1990، خلال استعراض لتحرّكٍ شعبيّ قامت به قبائل من الشعوب الأصليّة من غابات الأمازون المطيرة البوليفيّة، عبر تشكيل مسيرة طالبوا فيها بالاعتراف بهم على أنهم أصحاب أرضهم ومنطقتهم. وقد اعتُبرَ هذا الفعل بمثابة بداية لسيرورة طويلة من التحرّك السياسيّ للشعوب الأصليّة والقبائل الريفيّة في بوليفيا، الذين بدأوا، تدريجيًّا، برفع مطالبهم بإنشاء مجلس تأسيسيّ سياسيّ لدولة بوليفيا، ليتمّ تطبيقه في غالبيّة المناطق الريفيّة والمدنيّة من بوليفيا. كان هذا المطلَب، إلى جانب مطلب تأميم القطاع الهيدروكربونيّ، بمثابة عاملين أساسيين في انتفاضة أغلبيّة المجموعات المُهمَّشة والفقيرة في بوليفيا.
يكمن تفسير ذلك في حقيقة أنّ النموذج الاستعماريّ في بوليفيا، من منظور الشعوب الأصليّة والمجموعات السكّانيّة الريفيّة، لم يتغيّر منذ أن فرضه المستعمرون الإسبان أولاً على الإمبراطوريّة الإنكيّة في العام 1532. حيث بادرت المستعمَرة الإسبانيّة إلى تطبيق نظامٍ لاستغلال الموارد الطبيعيّة للدولة، يقوم على استغلال أكبر للقوى العاملة من السكان المحليّين، إضافةً إلى محاولةٍ إبادة السكان الأصليّين: فخلال السنوات الـ30 الأولى من الاستعمار، توفي %90 من عمال المناجم من السكان الأصليين، نتيجةً لأمراض لم تكن معروفة في السابق مثل الإنفلونزا، ونتيجةً للعنف، أيضًا.
كانت هذه الظروف نتيجةً للتمييز، العنصريّة، الإقصاء، التوزيع غير اللائق للثروة الذي قامت به القطاعات الحاكمة. هذا الوضع السائد لم يتغيّر بشكل جوهريّ (ولم يُنسَ كذلك)، فيما عدا إصلاحات ضئيلة تمت عُقب عدّة ثوراتٍ اندلعت عبر القرون. وفي تشرين الأول 2003، اندلعت ثورة شعبيّة أدّت إلى خلع الرئيس غونزالوا سانشيز دي لوسادا (مدافع رئيسيّ عن النيوليبرالية وعن تطبيق سياسات أمريكا الشماليّة في بوليفيا). فتمّ انتزاع الحكومة من أيدي الأحزاب السياسيّة التقليديّة، حيث انتقلت السلطة إلى الزعيم الأصليّ المنتخَب ديمقراطيًّا، إيفو مورالِس.
ينبع النقد الأساسيّ الموجّه إلى الدستور القديم من كونه صيغ وأُعدّ من قبل القطاعات السكانيّة التي حكمت جمهوريّة بوليفيا منذ تأسيسها في العام 1825، وعرضت خططًا طبّقتها البرلمانات المتعاقبة (الكونغرسات) التي كانت خاضعة لتلك القطاعات. أما بالنسبة للمجتمعات الأصليّة، سكان الريف والمجموعات الاجتماعيّة الأخرى، فإن تلك القطاعات تُعتبر جزءًا من البنية الاستعماريّة السائدة. يدعو هذا النقد إلى التحرّك والتنظيم من أجل بناء دولةٍ من نمط جديد تحتوي المجموعات الأصليّة وحقوقها الجماعيّة، وتضمن أنّ تكون السيطرة على الموارد الطبيعيّة بأيدي الدولة البوليفيّة.
ما هو الفرق الأساسيّ بين الدستوريْن القديم والجديد؟
هناك العديد من الفروقات بين الدستور القديم والدستور الجديد، أهمّها أنّ صياغة مسوّدة الدستور الجديد قد تمّت بمشاركة 225 ممثِّلاً من جميع أنحاء البلاد (المجلس التأسيسيّ المنتخَب شعبيًا) وإجراء 1000 استفتاءٍ شعبيّ، رغم كل العقبات، والعديد من زيارات القُرى، المجتمعات، المنظّمات، والتنظيمات النشطة الأخرى لضمان سماع اقتراحات مختلَف أطياف المجتمع البوليفيّ المتعددة. إضافةً إلى ذلك، فإنّ مضمون الدستور الجديد يحطّم النموذج الاستعماريّ الحصريّ: فليس فقط أننا نحن البوليفيّين نتمتّع بحقوق وواجبات متساوية، بل إنّ القُرى الأصليّة، كذلك، تتمتّع بحق الحُكم الذاتيّ لمناطقها وفقًا لقيَمها الثقافيّة. هناك فرق أساسيّ آخر هو الفصل المتعلق بالحقوق، وهي مادّة مثاليّة بطبيعتها، غير أنها تشكِّل مجموعة حقوقٍ واسعة جدًّا ومتقدّمة إذا ما قورنت بتلك الملخَّصة في دساتير أخرى. وأخيرًا، يضمن الدستور الجديد سيطرة الدولة على الموارد الطبيعيّة، ويشكّل تحوّلاً في النظام السياسيّ نحو حكومة مستقلّة لا-مركزيّة. لم يكن أيٌّ من ذلك موجودًا في الدستور السابق، حيث لم يكن من السهل تحقيق ما تم تحقيقه بصياغة دستورٍ جديد، نتيجةَ للمعارضةِ اليمينيّة (المؤلّفة من رجال أعمال، منظّمات مجتمع مدني مختلفة، ومسؤولين محافظين من المعارضة)، الذين قاموا، خوفًا على مصالحهم، بالعمل بلا كلل لوقف هذه العمليّة بكافة الوسائل الممكنة، حتى لو وضع ذلك بوليفيا تحت تهديد حربٍ أهليّة. كان بعض هذه المحاولات ناجحًا، خصوصًا في أوساط الطبقة الوُسطى، المحافِظة الى حدّ كبير..
من شارك في صياغة الدستور الجديد ومن كان في المجلس التأسيسيّ؟ هل شارك أعضاء من المجتمع المدني في العمليّة؟ هل تعتقد أنّ الأخصائيين الأكاديميّين كان يجب أن يصيغوا الدستور الجديد بدلاً من السياسيّين؟
الطريقة الوحيدة لتطوير الدستور الجديد كانت من خلال ضمان مشاركة مجموعات اجتماعيّة من كل البلاد؛ فهكذا كان من الممكن إجراء انتخابات أعضاء المجلس التأسيسيّ في العام 2006. لم تكن هناك ضرورة لوجود متخصّصين لتدوين السيرروة، حيث كان لهم دور استشاري فقط. كان على العمل أن يكون شاملاً على نحوٍ خاصّ نتيجةً للنقد السابق الذِكر والذي تم توجيهه إلى الدستور السابق. وفي أعقاب العديد من الصراعات، تم إقرار الدستور الجديد من قبَل الكونغرس في تشرين الأول 2008، وتم إقراره في استفتاءٍ عامّ أجريَ في 25 كانون الثاني 2009 بأغلبيّةِ %60 من الأصوات تقريبًا.
كيف تم إدراج حماية حقوق الأقليّات في الدستور؟ هل هناك نصوص مختلفة بخصوص حماية حقوق الأقليات والشعوب الأصليّة؟ هل تُمنح الحقوق الجماعيّة للشعوب الأصليّة وحدها أم للأقليّات، أيضًا؟
حقوق الأقليّات محميّة في الدستور الجديد بصورةٍ واضحة. وهذا صحيح أيضًا بالنسبة للأقليّات الأصليّة، مجموعات الأقليّات الأخرى، إضافةً إلى مجتمعات المهاجرين من الطبقة الوُسطى، حيث يرد ذِكر الأقليّات في سياق الشموليّة والتعدّديّة الثقافيّة فقط؛ وبذلك، تكون الحقوق الفرديّة والجماعيّة محميّة وفي وضعية متقدّمة، وفقًا للرؤيّة الشموليّة وتعدّد الثقافات.
تناول بعض النقد منح أهميّة أكبر من المطلوب للحكم الذاتيّ الخاصّ بالشعوب الأصليّة، في حين لم يكرّس اهتمام كافٍ لنحو 70% من السكان ممّن يسكنون المدن. ما رأيك بهذا النقد؟
إنّ منح الحكم الذاتيّ للمجموعات السكانيّة الأصليّة ليس نوعًا من الامتياز، وإنما منهج للعدل المجدّد بالنسبة للمجتمعات الأصليّة التي واجهت الاضطهاد الذي مارسه النظام الاستعماريّ والنظام الرأسمالي، وتغلبت عليه من خلال الاعتراف بثقافاتها وحضاراتها التي سبقت الغزو الاستعماريّ الإسبانيّ. ويشمل ذلك الحُكمَ الذاتي في إطار بوليفيا الموحَّدة، بما في ذلك سُلطة المجتمعات الأصليّة في ممارسة الحكم في مناطقها، إضافةً إلى اعتماد وتطبيق العدالة المرتكزة على معتقداتهم الثقافيّة. وهذا الأمر لا يتعارض مع احتياجات المناطق المدنيّة أو مجموعات سكانيّة مدنيّة؛ بل على العكس، إنه يعزّز من الشموليّة الكاملة، ويشكّل حجر أساس للتعدّديّة الثقافيّة بين مواطني بوليفيا. أحد العناصر الأساسيّة الأخرى هو الحقّ في الأرض وإلغاء الملكيّات الكبيرة، التي ربما تشكّل السبّب الرئيسيّ لمعارضة القطاعات المحافظة في الدولة للمجلسَ التأسيسيّ.
وفقًا لبعض المصادر، فإنّ "الهدف هو إعادة توزيع الأرض بين المزارعين، بمن فيهم أولئك القادمون من الريف والمدينة، والذين يرغبون في الزرع لإفادة المجتمع." هذه ضربة قاصمة لكبار أصحاب الأراضي. كيف يتعامل الدستور الجديد مع إصلاح الأراضي ومع المُلاّك السابقين للأرض؟
تنبع مشكلة الدستور الجديد من الاتّفاقيّة التي وقّعها الكونغرس (وليس المجلس التأسيسيّ) التي تضع امتيازات بخصوص الأراضي، من بينها بند ينصّ على أنّ تطبيق القوانين الجديدة لملكيّة الأراضي ليس لها مفعول ارتجاعيّ. وبذلك، فإنّ الذين بحوزتهم حاليًّا أملاك كبيرة يمكن لهم الاحتفاظ بها إذا استطاعوا توفير دليلٍ على أنّ أراضيهم تقدّم خدمة اقتصاديّة واجتماعيّة. كانت الفكرة الأصليّة هي مصادرة كلّ الأملاك الكبيرة، بشكل مفرط، في مختلف أنحاء البلاد، وإعادة توزيع الأرض لتحقيق المساواة، وخصوصًا لقُرى الشعوب الأصليّة والمجتمعات الريفيّة في أراضي بوليفيا الجبلية. قد تقولين إنّ ذلك سيشكّل ضربة قاصمة بالنسبة لكبار مُلاّك الأراضي. ولكنّ الدستور الجديد يمثّل تقدّمًا بالفعل، بمعنى أنّه ستكون في المستقبل حدود لكمية الأراضي التي يمكن حيازتها.
[1] يُنظَر فيفيان هارت، Democratic Constitution Making 2 (U.S. Inst. of Peace, Special Report No. 107, 2003)
[2] بروس أكِرمان، The New Separation of Powers, 113 HARV. L. REV. 633, 673 (2000).