معضلتان امام لجنة الدستور في الكنيست
من المرجّح أن يتآكل الوضع الدستوري للأقلية الفلسطينية في إسرائيل إلى حدّ أبعد.
تصوير: آني يوناتان
جوناثان كوك | مجلة عدالة الإلكترونية، العدد السابع، تشرين الثاني 2004
في الوقت الذي احتفلت فيه إسرائيل بيوم استقلالها السّادس والخمسين، في شهر نيسان من العام 2004، وبينما كانت معظم السَّيارات والشّوارع والمنازل والمباني العامة مكسوّةً باللونين الوطنيين الأزرق والأبيض، أصدر عضو كبير في البرلمان الإسرائيلي تصريحًا عزيزًا على قلب الأكثرية الصهيونية. فقد طالب إيلان شالغي، من حزب "شينوي" العلمانيّ، في هذا التصريح، بأن يُلزم أعضاء الكنيست العرب واليهود المتدّينون ارثذكسيا برفع الأعلام الإسرائيلية على سيّاراتهم الرسمية خلال فترة الاحتفالات. وتساءل باستنكارية "أليسوا هم أعضاء في البرلمان الإسرائيلي؟ أليسوا فخورين بكونهم إسرائيليين؟".
كانت اتّهامات شالغي الضّمنية بعدم الولاء معتدلةً وفقًا للمعايير السلوكية في الكنيست المتّسمة بالغرور. لكن، تقوم مثل هذه المواقف التي يتشاطرها السياسيون من اليسار ومن اليمين، الآن، بصياغة وتقييد النقاش الذي قد يكون ذا أهميّة مستديمة بالنسبة للادعاءات الديمقراطيّة التي تزعمها إسرائيل. ومنذ عام تقريبًا، يجتمع أعضاء من لجنة الدستور، القانون والقضاء في أيّام الآحاد، لصياغة مُسوَّدة دستور تحدّد طبيعة الدولة وحقوق المواطنة وواجباتها بشكلٍ نهائيّ .
خطوط الشقّ
لقد أدّت مهمّة صياغة دستور مكتوب إلى إرباك الحكومات الإسرائيلية والمشرّعين مدّةً تزيد عن خمسة عقود. وما يدعو إلى الغرابة في الأمر هو أن عمل هذه اللجنة المتسم بطبيعته التاريخية لم يستقطب أية تغطية صحفية، تقريبًا، على الرغم من أنه- أو لربما على وجه التحديد لكونه- يهدّد بإعادة فتح الجروح التي لم تلتئم بشكلٍ تامّ منذ الولادة الملطّخة بالدّماء للدّولة اليهودية في العام 1948. إنّ العقبة الكبرى التي تواجه هذه اللجنة- العقبة التي تعثّرت بها جميع الجهود السّابقة- هي اختيار صيغة الكلمات التي تصف طابع الدولة. وخلاصة القول بالنّسبة للأغلبية العظمى من البرلمانيين هي الأرثودكسة الصهيونية التي تعتبر أنّ الدولة هي يهودية وديمقراطية على حدٍّ سواء. لكن، من هنا تبدأ المشكلة بالنسبة إلى جمهورين من الناخبين يشكّلان معًا نحو ثلث السكّان في إسرائيل: الأقليّة الفلسطينية واليهود المتّدينون ارثذكسيا، أو الحريديم.
عضو اللجنة العربي الوحيد، عزمي بشارة، هو أبرز مؤيّدي أن تكون إسرائيل "دولة جميع مواطنيها،" ونموذجًا دستوريًا لا- صهيونيًا يكون فيه جميع الإسرائيليين مواطنين متساوين في دولة علمانية ديمقراطيّة. وتثير الإصلاحات التي يقترحها، والتي توافق عليها الأقلية الفلسطينية على نحو واسع، غضب كامل طيف الرأي اليهودي والصهيوني. وقد حضر بشارة بعض الجلسات الأولى قبل أن يتوصّل إلى قرار يفيد بأن مشاركته هي عديمة الجدوى، لا بل قد تكون مضرّة أيضًا، لأنَّ مجرّد حضوره هذه الجلسات بحدّ ذاته قد يمنح مجرياتها شرعيةً. "في كل مرّة حاججتُ بها أنّ إسرائيل، في رأيي، يجب ان تكون دولة ديمقراطية وليس دولة يهودية وديمقراطية، بدأت (الأحزاب اليهودية اليمينية) بالصراخ. لا يمكنك إجراء نقاش جدّي وعملي بهذه الطريقة. أنا لا أطلب أن يتفقوا معي في الرأي، لكن يجب عليهم السّماح لي بالتعبير عنه على الأقلّ."
تشارك الأحزاب اليهودية المتدينة ارثذكسيا في اللجنة، بشكلٍ رمزي فقط، عبر ممثّل واحد هو أبراهام رافيتس، من يهدوت هتوراه، الذي يتابع ما يجري في هذه الجلسات بحذر. وقد قال، مؤخّرًا، لصحيفة "هآرتس" إنّ أكثر ما يهمّه هو "ألا ينشأ وضع تقوم فيه وزارة التربية والتّعليم بالتدخّل، بموجب المبادئ الديمقراطية، بالتّعليم الحريدي، وأن ترغمنا على تعليم أطفالنا مواضيع علمانيّة."
يقف اليهود المتدينون ارثذكسيا الذين يبلغ عددهم 678,000، و 1.2 مليون من المواطنين الفلسطينيين، منذ إقامة دولة إسرائيل، قَدمًا هنا وقَدمًا هناك على جانبي خطوط الشّقّ المركزية في النّظام الإسرائيلي. وترفض المجموعة الأولى التعهّد بالولاء للدولة الديمقراطية العلمانية على أساس أنّ ولاءها الوحيد هو لله وشريعته؛ وتُستثنى المجموعة الثانية، فعليًا، من المشاركة الكاملة في الدولة اليهودية لسبب انتمائها العرقيّ. ويرى اليهود العلمانيون في نسب الولادة المرتفعة لدى كلتا المجموعتين أنها بمثابة تهديدٍ لاستمرارية بقاء تعريف إسرائيل لنفسها كـ"دولة يهودية ديمقراطية" على المدى البعيد. فمن جهة، ومع بلوغ تمثيل اليهود المتدينين ارثذكسيا حدّه الأقصى في الكنيست، أكثر من أيّ وقت مضى، كيف يمكن لإسرائيل مواصلة ادّعائها بأنها ديمقراطية في الوقت الذي تضطرّ فيه إلى تقديم مزيدٍ من التنازلات لمجموعة من السكّان تطالب بحكم ثيوقراطيّ استنادًا إلى الهلاخاه (التشريعات اليهودية)؟ ومن جهة أخرى، ومع نموّ الأقلية الفلسطينية، كيف يمكن للدولة إن تصف نفسها بأنها دولة يهودية، رغم وجود أعداد متزايدة من مواطنيها غير اليهود، أكثر من أي وقت مضى؟
أخطار القوننة
جعلت النقاشات العلمانيّة- الدينية الحيوية التي دارت في أثناء صوغ وثيقة الاستقلال، الوثيقة التي خلقت دولة إسرائيل في 14 أيار من العام 1948، الآباء المؤسّسين يدركون جيّدًا أنّهم إذا قاموا بتحديد طابع الدولة الجديدة بشكل دقيق أكثر ممّا ينبغي، فإنهم قد يؤدّون بذلك إلى تمزيق أوصال الإجماع اليهودي الهشّ. إختلف الصهيونيون العلمانيون واليهود المتدينون ارثذكسيا حول ما إذا كان يتعيّن ذكر الله في الوثيقة، قبل توصّلهم إلى حلّ وسط يشير إلى "صخرة إسرائيل،" التي فهمها المتدينون أنّها تعني الله بينما فسّرها العلمانيون تفسيرًا مجازيًا. كذلك، انتزعت الحاخامية المتشدّدة من الصهيونيين العلمانيين موافقةً تمنحهم سيطرةً حصريةً على قوانين الأحوال الشّخصية الخاصّة باليهود، مثل قوانين الزّواج، الطلاق والموت، والحقّ في تحديد مَن هو يهوديّ لهدف تدوينها في السجلات العامة. وتفرض الحاخامية، حتى يومنا هذا، على المكاتب الحكومية في إسرائيل، واجب التقيّد بالسّبت وبقوانين المباح في الشّريعة اليهودية، إضافةً إلى ضمان تمويل عامّ وسخيّ للمؤسسات اليهودية، بما فيها المعاهد والمدارس الدينية. وحافظت هذه الحلول العلمانية- الدينية الوسطية على سياسة رسميّة ضبابية في ما يتعلق بأهمية "الهلاخاه" في الدولة اليهودية. وأعلنت الوثيقة بوضوح: "إنه لمن الحق الطبيعي للأمة اليهودية في أن تكون أمة مستقلة في دولتها ذات السيادة مثلها في ذلك مثل سائر أمم العالم". أما بالنسبة لصياغة مسوّدة الدستور، فقد تعهدت الوثيقة بإتمامه مع حلول خريف العام 1948. وبحلول شهر حزيران من العام 1950، تم التخلّي، رسميًا، عن هذه المهمّة. وبدلاً من ذلك، تمّ توكيل لجنة الدستور، القانون والقضاء بمهمّة صوغ مجموعة من القوانين الأساس– يمثّل كلٌّ منها فقرةً في الدستور المستقبليّ.
واجهت اللجنة، منذ البداية، معضلة. أوّلاً، لم يكن في الإمكان إدخال العديد من المبادئ الدستورية ضمن القانون خوفًا من استثارة غضب المجتمع اليهودي المتدين. ثانيًا، كانت اللجنة واعيةً لمخاطر قوننة مجموعات كبيرة من الممارسات التي تميّز ضدّ غير اليهود في القانون. وكان على مثل هذا التمييز إما أن يكون غير رسميّ أو مبطّنًا في حال أرادت إسرائيل الاحتفاظ بشرعيّتها الدولية. وتمّت إجازة التمييز، عمليًا، من خلال فشل الدولة في إيجاد قوانين دستورية تحمي حقوق الإنسان. وهكذا، لم يكن في الإمكان الطّعن في الانتهاكات التشريعية وانتهاكات السياسة من خلال المعاينة القضائية. وقد تمّ بناء التمييز المبطّن على تركيبة معقّدة من القوانين التي تميّز علانيةً في حالة واحدة فقط لصالح اليهود: قانون العودة الذي يمنح كلّ يهودي (وفي هذه الحالة حدّدته الدولة بسخاء أكثر ممّا قامت به "الهلاخاه") حقّ الهجرة إلى إسرائيل. واستندت مجموعة كبيرة من ألاعيب التشريعات العنصرية الأخرى إلى هذا القانون دون غيره، مانحةً بذلك امتيازات "لأولئك الذين يحقّ لهم القدوم إلى إسرائيل بموجب قانون العودة."
صادقت الكنيست، حتى يومنا هذا، على 11 قانون أساس. وقد غطّت القوانين، في المراحل المبكّرة، المواضيع التي تمتّعت بإجماع يهوديّ: مبنى الكنيست والحكومة ودورهما، ملكية الدولة للأراضي نيابةً عن الشعب اليهودي وتحديد القدس عاصمةً للدولة. وتمّ تجاهل حقوق الإنسان الأساسية كتلك التي عادةً ما تكون ذات صلة بميثاق حقوقيّ، لأنّها كانت ستثير غضب اليهود المتدينن ارثذكسيا، وستدعّم حقوق الأقليّة الفلسطينية.
ثغرات لم يتمّ سدّها
لم تقم الحكومة، إلا في أواخر الثمانينيات فقط، بالتفكير في المصادقة الرسمية على قانون يضمن الحقوق الاساسية، تحت وطأة ضغوط معايير حقوق الإنسان الدولية التي قامت إسرائيل بالتوقيع عليها. وبدأ وزير العدل آنذاك، دان مريدور، في العام 1988، بالعمل على قانون الأساس الخاصّ بحقوق الإنسان، غير أنه جهوده سرعان ما ارتطمت بصخرة معارضة اليهود المتدّينين، كما كان متوقّعًا. لكنّ النّجاح حالف جزءًا من تشريعات مريدور المقترحة لتجد طريقها إلى كتب القوانين بعد سنواتٍ عدة، بمبادرة من رجل الأكاديميا وعضو الكنيست المعتدل أمنون روبنشطاين. وقد تمّ إدخال بعض العناصر من قانون الأساس في مشروعي قانون خاصين صودق عليهما في الكنيست على نحو غير ملحوظ تقريبًا في العام 1992 ليصبحا قانون أساس كرامة الإنسان وحريته وقانون أساس حرية العمل.
لا تزال أهميّة هذين القانونين موضع نقاش حامي الوطيس في إسرائيل. وقد نعتهما رئيس المحكمة العليا، إيهود براك، عند المصادقة عليهما بأنّهما "ثورة دستورية." وكان ذلك تفسيرًا مفرطًا في التفاؤل، إذ لم يتمّ شمل حقوق إنسان رئيسية مثل المساواة، حرية التعبير، منع الإكراه الديني وحقوق الفرد أمام المحاكم، ولم تكن هنالك محاولة لمنح صلاحية قانونية للحقوق الاجتماعية – مثل الحقّ في التعليم، الصحّة، العمل والرفاه الاجتماعي- الواردة، عامةً، في الدّساتير العصرية.
إضافة إلى ذلك، ينعدم، بشكل بارز، بندا في كل القوانين الأساسية يقر بوضوح بصلاحية المحاكم الإسرائيلية في الإعلان عن إبطال القوانين الجديدة التي تنتهك مبادئ قوانين الأساس القائمة. وقد أصدرت محكمة العدل العليا قرارًا مفادُه أنّ مثل هذه الصلاحيات قائمة غير أن هذه المحكمة تبدي ضبط فائقا للنفس في استعمالها – ليس آخرها الخوف من تقويض شرعيتها داخل الإجماع اليهودي، خاصة بين اليمين واليهود المتدينين.
ويتمّ التفكير، حاليًا، في اللجنة بتشريع يسدّ معظم هذه الثغرات في قوانين الأساس، وينقح قوانين الأساس القائمة، كجزء من محاولاتها وضع مسوّدة لوثيقة دستورية واحدة. ويجري البحث في "قوانين أساس حول التشريع"، "الحق في المحاكمة" و"السلطة القضائية والحقوق الاجتماعية". وسيتضمن الدستور النهائي، وفقًا للقوّة الدافعة لهذا الأمر والرئيس الحالي للجنة، ميخائيل إيتان، وهو عضو بارز في حزب رئيس الحكومة أريئيل شارون؛ الليكود، تمهيدًا يحدّد طابع الدولة، وقسمًا إداريًا يحدّد العلاقة بين الحكومة والمواطن، وقسمًا أخيرًا حول حقوق الإنسان وحقوق المدنيّة. وقد قامت اللجنة، في البداية، بالتركيز على المسائل الإدارية، تاركةً معظم القضايا الملتهبة – التمهيد والقوانين المستندة إلى الحقوق– إلى وقت لاحق.
"صورة إسرائيل"
يبدو أنّ إيتان يفهم جدّية المطبّات التي سيواجهها لاحقًا. فقد قال "إن السير في حقل الدستور مثله مثل السير في حقل من الألغام." وأضاف: "يمكنك التقدّم إلى الأمام، وتجنّب اللغم الأول، الثاني والثالث والرابع، وفي النهاية ينفجر كلّ شيء مع اللغم الأخير." لماذا نجد إيتان ملتزمُا، على هذه الشاكلة، بدفع مشروعه الأكبر الآن إلى الأمام مع تقييمه هذا ومع حقيقة فشل وزراء القضاء المتعاقبين في دفع "قانون أساس حقوق الأنسان" قدمًا؟
الجواب الرسمي هو أنّ هذا الائتلاف الحكومي لا يضمّ، للمرّة الأولى وفق ما تسعفنا الذاكرة الحيّة على تذكّره، أعضاء من الحزبين اليهوديين المتشدّدين دينيا، "شاس" و"يهدوت هتوراه"، ولذلك فإنّه لا يحتاج إلى الاعتماد على أصواتهم. ووفقًا لإيتان، فإن شريكي الحكومة الآخرين الحاليين، حزب "شينوي" العلماني وحزب "المتدينين الوطنيين" القريب من المستوطنين، لن يعارضا مبادئ الدستور. "يتحلّى هذا الائتلاف بصفة مميّزة هامة وهي اتفاق "شينوي" وحزب "المتدينين الوطنيين" على العمل معًا داخل هذه الحكومة. ويمكن لأغلبية الناس الالتفاف حول هذا الاتفاق."
لكن، وفقًا لمروان دلال من عدالة، المركز القانوني لحقوق الأقلية الفلسطينية، هنالك عامل ذو أهميّة كبرى. يشير دلال إلى مصلحة مشتركة قويّة متزايدة وغير محتملة بين اليمين واليسار الصهيونيين تدفع نحو وضع دستور. وتؤمن كلتا المجموعتين، لأسباب مختلفة، حسب رأي دلال، أنه ينبغي العمل على ذلك قبل فوات الأوان." ويقول أن "المياه ترتفع وهم يريدون بناء السدّ في أقرب وقت ممكن."
إنّ مصدر الرابط المشترك بينهما هو ما يبدو لنخبة الدّولة الصهيونية النّهاية المقتربة سريعًا للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني من حيث هو مواجهة على الحدود. ويقوم الإجماع على أنه ستتم إقامة دولة فلسطينية من نوع ما برصّ صفوف الرأي الصهيوني الكامن وراء الاعتقاد بأنه يجب على إسرائيل أن تزوّد نفسها والعالم أجمع بـ "صورة" أوضح بكثير. إن آراء الروائي الإسرائيلي اليساري أ. ب. يهوشوع هي آراء نموذجية. فقد قال في مقابلة أخيرة له عبّر فيها عن دعمه خطّة شارون للانفصال الأحادي الجانب من قطاع غزة: "أنا أؤمن، حقًا، في الهويات الواضحة والحدود الواضحة بينها ... لقد قمنا (حتى الآن) بربط دورتنا الدموية بدورة الفلسطينيين الدموية وهكذا فإن الشعبين يسمّم واحدهما الآخر."
إنّ اليسار، بشكل خاص، ماضِ في تعزيز مؤهلات إسرائيل الديمقراطية الواهنة في الوقت الذي تنفصل فيه الدولة عن الفلسطينيين بشكل رمزيّ، من خلال الجدار الذي يجري بناؤه حول المناطق المأهولة بكثافة في الضفة الغربية، والانفصال عن غزة الذي يقترحه شارون. ويخشى اليسار أن يكون مستقبل الدولة اليهودية موضع شك من دون صورة ديمقراطية واضحة. وقد أتى هذا في إعقاب التداول السطحي لمقالات نشرها مؤخرًا مفكرون يهود يدعمون حلّ الدولة الواحدة، مثل مقالة طوني جودت البارزة في "نيويورك بوك ريفيو"، وفي أعقاب مناشدة أوروبا المتزايدة لمقاطعة إسرائيل أكاديميًّا.
الديمقراطية والديموغرافيا
أحد الدافعين الرئيسيين لوضع دستور هو "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، وهو معهد دراسات وسطيّ يقوده أريك كارمون. ويقوم المعهد منذ العام 1992 بقياس جودة الديمقراطية في إسرائيل مقارنة بـ 35 ديمقراطية أخرى، وقد إزداد قلق المعهد إزاء التوجهات في إسرائيل. وتمّ تدريج إسرائيل في "فهرس الديمقرطية" في العام 2003 في مكانة متدنية من جميع النواحي المتعلقة بحماية حقوق الإنسان، وبالتمييز الإثني والإكراه الديني. وقد تم وضع إسرائيل في أسفل القائمة من ناحية الاستقرار والتكافل الاجتماعي، وتبديل الحكومات على نحو متكرر أكثر من أي ديمقراطية أخرى. وأشار الفهرس، أيضًا، إلى التزايد في عدم المساواة والفساد، والهبوط في المشاركة السياسية وحرية الصحافة في العقد الأخير.
لكن، أتت النتائج مقلقة على نحو أكبر في استطلاع رأي للمصوتين الإسرائيليين أظهر أن 77% من اليهود فقط مقتنعون بأن الديمقراطية هي أفضل طريقة للحكم. وكانت أكثرية من اليهود لصالح التمييز الصريح ضد الأقلية الفلسطينية: عارض 53% المساواة للعرب، ولم يقبل 69% مشاركة الأحزاب العربية في الحكومة، واعتقد 57% أنه يجب تشجيع العرب على الرحيل من البلاد.
إنّ أحد نشاطات المعهد الرئيسية منذ العام 1999 هي الحملة التي يقودها من وراء الكواليس لخلق ما أسماه "دستور بالإجماع." وقد بدأ في محاولة لجمع مفكرين بارزين من اليهود والعرب معًا لوضع مسوّدة وثيقة للتعايش بين المجتمعين. وناقش المشاركون، بقيادة روث غافيسون وعادل مناع، القضايا المشحونة مثل منح المواطنين الفلسطينيين وضعية أقلية قومية، ومطالبتهم بإداء خدمة وطنية ذات طابع عسكري أو مدني، وتخصيص أراضيَ دولةٍ لهم. ولكن تمّ الوصول إلى طريق مسدود عند مناقشة تعريف إسرائيل. واقترح القانوني مردوخاي كريمنتسر أنّه يجب وصف إسرائيل بأنّها "الدولة التي حقق فيها الشعب اليهودي حقه الطبيعي في تقرير المصير في إسرائيل." رفض الممثلون العرب هذه الصيغة اللاتاريخية. وبعد ذلك مباشرة، أدّى انطلاق الانتفاضة الفلسطينية في خريف العام 2000 إلى دق ناقوس الموت لهذه الجلسات.
تضمّ المؤسسة الوسطية اليسارية، أيضًا، قضاة محكمة العدل العليا وقائدهم، إيهود براك، القلِقين هم أيضًا على صيت إسرائيل في الخارج. وقد وجد براك، الذي يحب أن يعرض الجهاز القضائي كداعم لمُثل الدولة اليهودية وحاميها، أنّ اليمين المسيطر يحاصر المحكمة على نحو متزايد. وقد أُرغم براك، بشكل خاص، على الدّفاع عن محكمته أمام هجمات اليمينيين المتطرفين من أمثال وزير المواصلات أفيغدور ليبرمان، الذي يدفع نحو استبدال محكمة العدل العليا بمحكمة دستورية تتشكّل من سياسيين معيّنين، حاخامات وعلماء سياسيين، سيقومون بالتجاوب على نحو أكبر مع الرغبات الجماهيرية. وتكمن خشية براك في أنه إذا استمرّت الكنيست في الاتجاه الماضي نحو اليمين، فإنّ إسرائيل ستواجه أزمةَ شرعيةٍ قد لا يمكنها الخروج منها. ويبدو أن براك يريد دستورًا، آملاً في أن يؤدي فرض التقييدات الديمقراطية على الكنيسيت إلى انهاء الحاجة إلى مواجهات محكمته المتكرّرة مع المشرّعين. ويضيف دلال: "لكنه غير مطمئن، أيضًا"، فهو يعلم أنّ أي دستور تنصّه هذه الكنيست وتصادق عليه لن يكون، على الأرجح، دستورًا جيدًا.
إنّ دافع اليمين الكامن خلف السعي وراء الدستور مضاعفٌ. والغريزة الأساسية لذلك هي أنه ينبغي على إسرائيل "تنظيف بيتها"، إذ سيتمّ الوصول إلى نوع من الانفصال عن الفلسطينيين. وحساباته هي في الأساس ديمغرافية: يجب على إسرائيل التأكد من حصولها على أكثر ما يمكن من الأراضي للدولة اليهودية وأقلّ ما يمكن من العرب. وبكلمات أخرى، يريد اليمين ضمان كون الدولة "يهودية" على نحو حصين وأن يتم إبطال تأثير التهديدات الديمغرافية- سواء أكانت من فلسطينيي الأراضي المحتلة أو من داخل إسرائيل. ولم يتزامن بدء العمل على صياغة الدستور صدفةً مع إثارة رئيس الوزراء ثانيةً خيار تبادل الأراضي مع الفلسطينيين؛ ستأخذ إسرائيل أجزاء من الأراضي التي أقيمت عليها مستوطنات في الضفة الغربية وستنقل أراضي إسرائيلية قريبة من الضفة الغربية يعيش عليها أكثر من 100,000 فلسطيني. ويشير دلال إلى أنه يوجد، أيضًا، سبب براغماتي لتحمس إيتان على صياغة دستور الآن. "الليكود هو المسيطر الآن، وهو يعرف، مع حزبه، أن لديهم أفضل فرصة من أي وقت مضى لصياغة دستور يعبّر عن جميع آرائهم المجحفة."
الهيمنة الصهيونية الجديدة
لقد جمعت الانتفاضة هذين التيارين من الآراء الصهيونية، اليسار واليمين، في نفس الخانة. ومع فشل اليسار في التوصل إلى اتفاق مع حلفائه العرب السابقين حول جوهر قضية الوصف الذاتي الصهيوني للدولة، ومع ما يُفهم على أنه خيانة الأقلية الفلسطينية عند تظاهرها دعمًا للانتفاضة، يمكن للاتجاه الصهيوني السائد أن يجد قاعدة مشتركة. وقد تركزت المفاوضات، منذ الانتفاضة، على تشكيل إجماع يهودي جديد، بين العلماني والديني، وبين اليسار واليمين. ومن ناحية ثانية، تمّت إعادة تعريف الأقلية الفلسطينية من شريك ممكن إلى تهديد وجودي وشيك للدولة اليهودية.
وصف نديم روحانا ونمر سلطاني ظاهرة ما بعد الانتفاضة هذه بأنها "هيمنة صهيونية جديدة." وقد كتبا في "مجلة الدراسات الفلسطينية" في عدد خريف العام 2003 ما يلي: "وصل التشديد على الهوية اليهودية لإسرائيل إلى مستويات غير مسبوقة منذ أحداث أكتوبر 2000 الاحتجاجية وظهور الوعي العربي القومي الذي سبقها. "ومع ذلك كلّه، فإذا كانت إسرائيل مبنيّة (في الحقيقة في عقول الجمهور) كدولةٍ إثنية يهودية، فمن الطبيعي أن يتمّ تفسير أيّ ظهور لوعي سياسيّ وقوميّ غير يهوديين على أنه تهديد للجمهور اليهودي."
لقد تمّ عرض التغيير في توجّه الاتجاه الصهيوني السائد في المؤتمر الأول لمركز هرتسليا للدراسات المتعددة الأفرع في كانون الأول عام 2000، الذي نظمه معهد السياسة والإستراتيجية المقام حديثًا. وقام أكثر من 300 من القياديين اليهود من السياسيين، الأكاديميين، المسؤولين الأمنيين، وصانعي السياسة في دفع موضوع التهديد الديموغرافي الذي تشكله الأقلية الفلسطينية إلى رأس جدول الأعمال. وأوصى المؤتمر "بسياسة الاحتواء" بغية الحفاظ على الطابع اليهودي للدولة، بما في ذلك الحث على الولادة اليهودية وإلغاء محفزات إنشاء عائلات كبيرة للمواطنين الفلسطينيين. وكان هنالك، أيضًا، نقاش حول إعادة تنشيط مشروع تهويد الجليل في قلب المناطق العربية في الجليل والنقب، ونقل السكان العرب مما يعرف كمنطقة المثلث، القريبة من الخط الأخضر، إلى الدولة الفلسطينية العتيدة.
تبع مؤتمر هرتسليا ما أصبح يعرف باسم "ميثاق كنيرت،" وهو محاولة أخرى لتعزيز الإجماع الصهيوني. نُشر هذا الميثاق في كانون الثاني من العام 2002، وكان ثمرة عام كامل من الجهود شارك فيها نحو 60 من القياديين والمفكرين اليهود البارزين من خارج الحكومة والكنيست، ممن ينتمون لمنظّمة تدعى "منتدى المسؤولية القومية. "وشمل هذا المنتدى، الذي بادر إليه، أصلاً، زعيم المستوطنين السابق وصاحب الزاوية الصحفية الثابتة يسرائيل هريئيل، شخصيات متنوعة مثل يولي تمير، وهي من مؤسسي حركة "السلام الآن"، وشغلت منصب وزيرة الاستيعاب في حكومة إيهود براك، أرنون سوفر، وهو ديموغرافي من جامعة حيفا، ويؤمن بأن الأقلية الفلسطينية في إسرائيل تشكل خطرًا وجوديًا على إسرائيل، الجنرال اليميني المتعصّب إيفي إيتام، وهو الزعيم الحالي لحزب المتدينين الوطنيين والوزير في الحكومة الحالية، وعوزي ديان، رئيس مجلس الأمن القومي. وكان من بين واضعي مسوَّدة الوثيقة فلاسفة، فنانون، جنرالات، محامون، صحفيون، شعراء، مستوطنون وحاخامات.
وكانت الصيغة النهائية من الميثاق، الذي تمّ التوقيع عليه بعد ثلاثة أيام من النقاشات المكثفة على شواطئ بحيرة طبريا، بمثابة وثيقة استقلال منقّحة ومحدّثة. وتنصّ الفقرة الأساسية المعرّفة في هذه الوثيقة على ما يلي: "تحقّق دولة إسرائيل، كدولة يهودية، حقّ الشعب اليهودي في تحقيق المصير. ويتمّ التّعبير عن الطابع اليهودي لدولة إسرائيل من خلال الالتزام العميق بتاريخ إسرائيل وحضارة إسرائيل، من خلال العلاقة باليهود في الشتات، من خلال قانون العودة، من خلال تشجيع الهجرة واستيعاب المهاجرين؛ ومن خلال الفنون الإسرائيلية الإبداعية واللغة العبرية التي تشكّل اللغة الرئيسية للدولة." وحصلت الأقلية الفلسطينية، التي لم تكن ممثلة في هذه النقاشات، على فقرة قصيرة تَعِد بوضع حدّ للتمييز. "ستدعم إسرائيل حق الأقلية العربية في الحفاظ على هويتها اللغوية، الثقافية والوطنية." ووجد النقاش الديموغرافي طريقه إلى هذه الوثيقة: "من أجل استمرار وجود إسرائيل يهودية وديمقراطية، يجب مواصلة المحافظة على وجود أكثرية يهودية جدية وصيانتها."
عبّر العديد من المشاركين عن الرأي القائل بأنّ مواطني إسرائيل الفلسطينيين لا يمكنهم لوم أحد إنّما لوم أنفسهم لاستثنائهم من مناقشات الكنيرت. وقالت الشاعره حافا بنحاس كوهين "عُقد اللقاء بغية التوصل إلى حوار يهودي داخلي نتيجة لحملة عرب إسرائيل المنظّمة، تحت غطاء الديمقراطية الإسرائيلية، الرامية إلى ربط أنفسهم بالشعب العربي الفلسطيني في المقام الأول وبعدها فقط بدولة إسرائيل." لا يبدو أن أحدًا من المشاركين اليساريين في لقاء الكنيرت يدرك أنهم قاموا بتحوير النقاش من نقاش حول النزوات الديمقراطية للدولة إلى نقاش حول يهوديتها. وقد تم اعتبار مسألة كون إسرائيل دولة ديمقراطية، في هذا الميثاق، أمرا مسلّما به.
تآكل المواطنة
تجري في النقاش الدائر حاليًا أمام لجنة الدستور، القانون والقضاء عملية مشابهة. يقول دلال إن "ما نراه هو نقاش يستند إلى حلّ الدولتين الذي يتمّ تبريره على أساس أن إسرائيل يجب أن تكون دولة يهودية بدلاً من أن تكون دولة ديمقراطية. لنفكّر في الاختلافات مع جنوب أفريقيا الجديدة. كان الهدف من الدستور هناك الدفع بحقوق الإنسان قدمًا. هدف اللجنة هنا الدفع بيهودية الدولة قدمًا."
تحصل لجنة إيتان على مساعدة الشخصيات الريادية في "الهيمنة الصهيونية الجديدة": أوريئيل رايخمان من مركز هرتسليا متعدّد الأفرع، أمنون روبنشطاين وأريك كارمون. وسيقومون بإدارة النقاش في محاولة لبناء إجماع يهودي من أجل وضع دستور، من خلال جمع اليسار، اليمين واليهود المتشددين تحت راية الدستور الذي سيكون دستورا ليكوديًّا في جوهره، بالنظر إلى التركيبة الحالية للجنة وللكنيست. ومن المؤكد أن دور الأقلية الفلسطينية في وضع مسوَّدة لدستور كهذا سيكون في حدّه الأدنى.
يحاجج ميخائيل كريني من كلّية الحقوق في الجامعة العبرية في القدس أن تهميش الأقلية الفلسطينية في هذه العملية هو أمر يتعذر اجتنابه بعد فشل التعدّدية الثقافية، على مدار عقود من الزمن، في شق طريقها نحو المجتمع الإسرائيلي. "لم يتطور في إسرائيل مفهوم "رباط شعبي عام" أو "مجال من المواطنة العامة" بغية الجسر بين المواطنين العرب واليهود في إسرائيل. ويتم ابتكار كل فكرة "للصالح العام" لتتوافق على نحو تام مع مصالح ومُثل مجموعة الأكثرية – المجتمع اليهودي." ويدعم هذا الرأي محامي الحقوق المدنية الفلسطيني يوسف جبارين، الذي يؤمن بأن الأقليّة تتضرر على نحو مناوئ من خلال نظام التحيّز الإثني الإسرائيلي، بشكل أكبر من أعمال التمييز الفردية. "لا يأتي الضرر الحقيقي الذي يعاني منه الأطفال الفلسطينيون، على سبيل المثال، نتيجة لعدم المساواة في الموارد فقط، وليس نتيجة لحقيقة حرمانهم من تعلم تاريخهم وإرثهم في المدارس، وليس نتيجة لحقيقة حرمانهم من مؤسسات جماهيرية متساوية ترفع من شأن لغتهم فحسب، وإنما نتيجة لحقيقة كون جهاز التعليم الخاصّ بهم عبارة عن جزء من النظام الذي يعرّفهم بأنهم أقلّ شأنًا وأنّ نظراءهم اليهود أرفع مقامًا منهم.
من المرجّح أن يتآكل الوضع الدستوري للأقلية الفلسطينية في إسرائيل إلى حدّ أبعد. فالقيادة الإسرائيلية مُقدِمة على تغيير مفاجئ في وجهتها، بعد عقود من الزمن قام خلالها مسؤولون مصمِّمون على فصل المواطنين الفلسطينيين، أيديولوجيًا وتاريخيًا، عن أبناء شعبهم بتسميتهم "العرب الإسرائيليي