"أعيش في متاهة/ في مكان تخاف الملائكة أن تطأ فيه/... تقولون إّننا متساوون، وحين أطرق بابكم/surprise surpriseفإنكم لا تجيبون بالمرّة". [تامر النفّار].
إنّ طرقَ بابنا يعود إلى سنين طويلة، ولحسن حظّنا فهو متواصل، ولم يُستبدل بالضربات. إنّ المحزن في الأمر هو أنّنا، اليهود الإسرائيليين منّا، بقينا قساة القلب. قلّما نقدّر التمسّك بالكلمة، والرفض الحازم للعنف من قبل الغالبية المطلقة من أبناء الأقلية العربية. حتى أننا نرفض الالتفات إلى أنّ هذا التمسّك لم يهتزّ على الرّغم من ستّين عامًا من الغبن، أربعين عامًا من الاحتلال، سبعة أعوام من السّفك القاسي والمتبادل للدماء بين دولة الأقليّة وبين شعبها، بعد قتل متظاهري الأقليّة بأيدي الشرطة، تجاهُل أكثر التقارير التي صدرت عنّا كمجتمع جرأةً وحكمةً – تقرير لجنة أور – وسنّ قوانين عنصرية، بصريح العبارة تقريبًا، كقانون المواطنة والدخول إلى إسرائيل.
مثلما هو الأمر مقابل الفلسطينيين فإننا نشترط الإصغاء بشروط مسبّقة مستحيلة، تقريبًا. فعلى الأقليّة أن تتنازل، مسبّقًا، عن عرض مفهومها للعدل وهو الشراكة التامة وثنائية القوميّة، داخل دولة في حدود الخط الأخضر. عليها أن تؤدّي الخدمة في الجيش أو في الخدمة المدنية كشرط لخفض التمييز، وغير ذلك. هذا هو السبب، على ما يبدو، في الاهتمام القليل نسبيًا الذي حظيت به وثيقة هامة من قبل الأقليّة: مقترح الدستور الذي وضعه مركز عدالة، تحت عنوان "الدستور الديمقراطي". والمقصود هو مقترح معمّق يبرز فيه بذل الكثير من التفكير. إنّ أقلّ ما يستحقّه هو التعاطي معه. وسآخذ على نفسي شيئًا من المهمّة. سأعرض، بداية، الناحية الإيجابية التي ألمسها فيه، ثمّ أنتقل إلى السّلبية.
بدايةً، يصرّح المقترح مباشرة بأنّ حدود الدولة المقبولة عليه هي حدود الخطّ الأخضر، أي أنّه يتبنّى حلّ الدولتين للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، ويرى إلى حياتنا المشتركة هنا على أنّها ستستمرّ في دولة ذات أكثرية يهودية. ثانيًا، يقترح "ديمقراطية دستورية"، تكون فيها حقوق الإنسان مرسّخة في دستور صلب، وتتمتّع بحماية المحكمة عبر النقد القضائيّ لنفاد قوانين تمسّ بالحقوق. ثالثًا، إنه يصوغ حقوق الفرد، حقوق المواطنة المشتركة، بشكل واضح يشبه دساتير ديمقراطية أخرى. بالطبع، إنّ الحق الدستوري في المساواة هو حقّ مركزي هنا. رابعًا، أنا نفسي أوافق جدًا مع قسم من الحقوق الجماعية التي يُطالَب بها في "الدستور الديمقراطيّ": أوتونوميا ثقافية (المشروطة بالحاجة في ألا تمسّ "بأقليّة داخل أقليّة")، ومشاركة الأقلية في رموز الدولة. صحيح أنّني لا أوافق على مطلب المشاركة التامة، المتساوية على صعيد الرموز بين أكثرية تعدادها 80% من السكّان، وبين أقليّة، حتى لو كانت أقليّة أصلانية. لكنني شريك في رفض الوضع الراهن للأمور، الذي بموجبه تبقى الرموز محفوظة حصريًا لمجموعة الأكثريّة. خامسًا، من الصّعب، برأيي، عدم قبول مطلب المقترح بإعادة المهجّرين مواطني إسرائيل (إقرث، برعم وغيرهما) إلى أراضيهم، إذا ما سمحت الظروف بذلك، لأنّ هذا المطلب لا يغيّر شيئًا في العلاقات الديمغرافيّة بين اليهود والعرب في إسرائيل. كذلك، تجدُر الاستجابة إلى المطلب المدنيّ بالاعتراف بـ"القرى غير المعترف بها".
في المقابل، ما هي مشاكل المقترح؟ أوّلاً، يربط اقتراح الدستور كافة مطالبه – والقسم الأكبر منها مبرّر تمامًا – بالتحوّل إلى نموذج جديد، ثنائيّ القوميّة (بصياغتها المتملّصة بعض الشيء: "دولة ثنائية اللغة ومتعدّدة الثقافات"). معنى ذلك هو أنّ الاقتراح يربط مطالبه بترك نموذج الدولة اليهودية والديمقراطية. أحيانًا، توجد ضرورة لتحوّلات راديكاليّة، لكن لكون هذه التحوّلات صعبة وباهظة الثمن جدًا، فيجب بذل الكثير من العناء بغية الإقناع بأنّها ضرورية حقًا. هل أنّه من أجل تحقيق أ، ب و ج، يجب، أيضًا، تحقيق د و هـ، وهما غير القابلين للهضم من قبل المجموعة الأخرى؟ فالعديد من المطالب الواردة في اقتراح الدستور، كما جاء أعلاه، لا تهشّم النّموذج الصهيوني – تخصيص أرض للعرب، أوتونوميا ثقافية للعرب (أشبه بالأوتونوميا المتوافرة للحريديين)، المشاركة في رموز الدولة، إعادة المهجّرين (خلافًا لحقّ العودة للاجئين) – هي، وغيرها، مطالب ممكنة التحقيق لا بل من الجدير السعي لتحقيقها وفقًا لرؤى إنسانيّة لدى الصهيونية. لماذا، إذًا، يجب الخروج باقتراح يبدو مثل "كلّ شيء أو لا شيء"؟
الصّعوبة الثانية المنوطة بمطلب "الدستور الديمقراطي" تحويل إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية تتعلّق بالشروط اللازمة لثبات إطار كهذا. إنّ اقتراح الثنائية-القومية هو اقتراح لتوأمة سيامية، تحت ظروف هي الأقسى لتوأمة كهذه. فيفترض بنا الدخول إليها دون أن يكون قد تمّ التوصل إلى حلّ في الخلاف الأساس بيننا وبين الشعب الفلسطيني على حقّ العودة؛ في حين أن هناك في خلفية الوضع ثلاثة آلاف قتيل فلسطيني وما يزيد عن ألف إسرائيلي-يهودي؛ في حين أنّ هناك عدم استقرار ديمغرافيًا؛ في حين أنّ الثقافة السياسيّة الديمقراطية ليست متينة في الجانبين؛ في حين أنّ هناك فروقات اجتماعية-اقتصادية كبيرة بين الشعبين؛ وغير ذلك. إنّ هذه الظروف تختلف، تمامًا، عن تلك التي رافقت تبلور النّماذج الكلاسيكية للدولة الثنائية القومية المعروفة لنا، سويسرا، بلجيكا وكندا.
الصّعوبة الثالثة ترتبط بالحاجز المحتمل الذي يضعه "الدستور الديمقراطي" – بغير رغبته – لحلّ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. فمن جهة، هناك حاجة في حلّ شامل للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني حتى تنضج الظروف لإطار ثنائيّ القومية. فلا يمكن انتهاج شراكة، حقّ فيتو، إطار ثنائيّ القومية، في غياب اتفاق واسع بين المجموعتين بخصوص القيم المشتركة والغايات المشتركة، وخصوصًا في القضايا المصيرية. لكن، يجب أن تقع صدمة كبرى، أقسى كثيرًا من فكّ الارتباط عن قطاع غزة، حتى ينتهي هذا الصراع. أي، انسحاب حتى الخط الأخضر، تقريبًا. ومن أجل تحقّق هذا، هناك شرط ضروريّ هو ألا تكون في خلفية الوضع "خطّة مراحل"؛ ألا يكون مطلب بدولة ثنائية القومية. بكلمات أخرى، إن الانسحاب الكبير، فيما لو تمّ، سيكون نتيجة لقرار نفعيّ من الإسرائيليين اليهود بأنّ هذه هي الطريق الوحيدة للنجاة. سيكون ذلك قرارًا لأنّ التنازل عن الاحتلال والانسحاب وحدهما، يسمحان بمواصلة السيادة وعدم التبعية لآخرين. وهكذا، فإنّ الإطار الثنائيّ القوميّة يُنظر إليه بالضبط على أنّه تنازل عن عدم التبعيّة تلك. وهو يؤسّس لحقّ فيتو للأقلية في القضايا التي تعتبر مصيرية.
إذًا، فنقاط الخلاف والاتفاق مفصّلة. لم يتوقّف الزّمن عن الجريان. طرقُ الباب تواصلَ، لكن من يطرقه أكثر حزمًا، أكثر فصاحة وهو متمسّك بدرب الحوار. بدلاً من الإصابة بالذّعر، بدلاً من التّوق إلى استعادة "الفردوس" المفقود المؤلف من أقلية خانعة، أداة طيّعة بيد خالقها، فلنعمل أخيرًا بموجب قيمة النزاهة.
فلنوافق على إعطاء ما كان يجدر إعطاؤه منذ عهد من السنين بل أكثر، ولنمتنع عن اشتراط العطاء بأيّ شرط، فهذا حقّ مدنيّ وليس صدَقَة، ولنصرّ على تلك الأمور التي يجدر الإصرار عليها فقط: بوّابات الدخول إلى إسرائيل، السّيطرة على قوّاتها الأمنيّة، والغلبة (ولكن غير الحصرية) في رموزها.