حدّثنا إذًا، كيف كانت تلك اللحظة التي أخرَستَ فيها الموسيقا الصاخبة، وأزلتَ صُحبة رفاقِكَ الأكياسَ من على عشراتِ الرؤوس المَحنيّة، وفتحتَ الأصفاد الملتصقة بالأيدي المُنتفخةِ والجريحةِ، وساعدتَ مع سائر المحققين عشرات الأجساد المَثنية والمُشوّهة على القيام عن مَساندِ القدميْن المُعوَجّة، ثم أزلتَ عددًا من السلاسل التي تدلّت من السّقف، لتسمحَ للجّسد الضامر جراء التعليق بالسّقوط والارتخاء. هل توقفتَ عن "الهزّ" وهو في الذروة أم أنك لم تصبر فزدْتَ جولة أخرى وَداعيّة. ورجلكَ، القابعة في الحذاء الموضوع على البطن المشدودةِ، هل أتمّت اللكزَ أم تراجعتْ إلى الوراء؟ كانت هذه مفاجأةً خالصةً، لي ولكَ. جلسنا في المحكمة العليا كأننا غير مُصدّقيْن. قرأ القاضي إلياهو ماتسا بصوت مرتفع مقاطعَ من القرار الذي اتخذه جميع الأعضاء التسعة في تركيبة المحكمة العليا، "نحن نجعل من جميع الأوامر أوامرَ مطلقة". ما معناه: التعذيبات والمعاملة المهينة ممنوعة منعًا باتًا، في أية وضعية وفي أيّ حال. "الشبْح"- ممنوع؛ "ركعة الضفدع"- ممنوعة؛ كيس على الرأس- ممنوع، ممنوع، ممنوع. تردّد قرار الحكم في أذني ببساطة مثيرة للعجب- لقد أملت المحكمة القرار الصحيح، الكامل، المفروغ منه والمفهوم ضمنًا، وشعرتُ كما لو أنّ المحكمة تخلق لنا من جديد إعلان حقوق الإنسان. كل تسويغ طرحناه وكل ادعاء قلناه، لسنوات وسنوات، وجدا مكانهما الطبيعيّ في قرار الحكم. أسطر متراصّة من العدل، لا تشوبها شائبة. عندما نظرتُ إليكَ بدوتَ شاحبًا ومُهمَلاً، وكأنكَ فقدتَ في دقيقة واحدة عالمَكَ برُمّته. عندما خرجتَ من القاعة لم تخطُ خطوتك الواثقة التي خطوتَها في السّابق، ولم تعُدْ مِشيتكَ كمِشية القادر على كلّ شيء. نحن نذكرُ، إثنيْنا، جميعَ المداولات الطويلة، ملفًا ملفًا، التي أوضحتَ فيها بأنّ "هذه ليست تعذيبات بالضبط"، وبأنّ كلّ ما يحدث متعلق "بأمن الدولة"، كما أنّ الحديث أصلاً يدورُ عن "موادّ سرية" سيجري بحثها من وراء "أبواب مُوصدة" وأنّ كلّ ما يحدث منبعه "النوايا الحسنة". ولا شكّ أنك عدّدتَ في ذاكرتِكَ جميعَ المرات التي نجحتَ فيها –تمامًا مثل الذئب في "ليلى الحمراء"- بأن تقنع بأنّ وجودَ الموسيقا الصاخبة لم يكن إلا لمنع المُستجوَب من السّمع، وبأنّ الكيس المُنتن وُضع على رأسه كي لا يرى، وبأنّ الربط جاء لمنعِهِ من التحرّك، وبأنّ الضربات أُنزلت به لأنه حاول المشاغبة وبأنّ الكدمات نتجت عن وقوعه من على الدّرج. وأصلاً، للمُستجوَب معه سجلٌ طويلٌ وهذا هو السبيل الوحيد المتاح معه. إثنان وثلاثون عامًا من البطولات الأمنية إنفرطت فجأة أمام ناظريْكَ، بقرار مُفصل، وتحولت إلى اثنين وثلاثين عامًا من الجّنوحية المحظورة. وأنتَ، كالطفل المُدلل والمحبوب الذي كُنتَه، قلتَ بعفوية: "حسنًا، سنسلم القضاة زمامَ الأمور، ولنرَهم يديرون التحقيقات". هل شعرتُ بالحاجةِ لتعزيتك عندما قلتُ لكَ إنّ هناك أماكن خطرة أخرى في العالم وإنّ محققين آخرين يكشفون عن مخالفات أمنية، وإنك لم تخترع الحرب ضد الإرهاب وإنه يمكن إدارة تحقيق، أيضًا، من خلال الحفاظ على القانون، ويمكن تحقيق إنجازات؟ ذكّرتُكَ بكل الأمثلة التي أحضرناها أمام المحكمة، والتي جرى فيها الكشف عن مخالفاتٍ لا تقلّ خطورة، من دون اللجوء إلى وسائلك الوحشية. ولكنكَ لم تقتنع. ومع فقدانِكَ "للتصاريح الخاصةِ" فقدتَ، أيضًا، ثقتكَ الباهرة بالنفس. هل طلبتَ مساعدة السياسيين والمعلقين ومختصّي الأمن، أم أنّ هؤلاء خرجوا، بمبادرةٍ منهم، إلى وسائل الإعلام كي يصيحوا "الويل الويل"؟ ألم تنتبه، في خضمّ ضائقتك، إلى انقلاب طعوناتك كلها رأسًا على عقب؟ اسمح لي بأن أذكّركَ بأنه وحتى العام 1987 أنكرتَ مطلقًا وجود أية تعذيبات! فالفلسطينيون، ومعهم كُرّاه إسرائيل الصارخين احتجاجًا، يُشوّهون سمعتك ليس إلا. وعندما أضاءت "لجنة لاندوي"، بمصباح جيبٍ، عتمة َغرف تحقيقاتكَ، اضطررتَ للاعتراف باستخدام معتدل لوسائلَ جسدية، وكنتَ مضطرًا لأن تضمن توقفكَ عن الكذب في المحاكم ولجان التحقيق. بعدها، ومن سنة إلى أخرى، وكلما كبرت الشفافية، بدأت بالاعترافِ، رويدًا رويدًا، بوجود "وسائل خاصة"، وحتى بالاعتراف باللجوء إلى القوة المعقولة. وبعد حادثة أو اثنتين اعترفتَ أيضًا بـ "الهزّ". وعندها فصلتَ المحقق الذي داس زيادة عن اللزوم، ولكنك لم تبالغ بهذا الشأن؛ فالذي تسبب في موت مُستجوَب خنقًا حُوكم تأديبيًا، لأنّ أحدًا لم يتوقع أن يكون هذا المستجوَب، بالذات، يعاني أزمة في التنفس. وبعد عدد كبير من حوادث العمل وضبط النُظم، طلبتَ التهيّؤ لعصر بيروقراطية التعذيب المُوثق، فلُبّي طلبك وبدأتَ بهذا. ولكن وبالذات حينما بدأ كل شيء يسير وفقما يُرام، انقضت عليك جميع تنظيمات حقوق الإنسان وجميع الذين يكفرون بقدسية الأمن العليا، وأضاؤوا من حولك جميع الكشّافات الضوئية واستعرضوا جميع المُربَّطين والزاحفين والمعلقين والراكعين. وأنتَ، في ظلّ الضوء الكبير والانكشاف المطلق، اختفيتَ وتبخرتَ كالعثّ الذي لا يحيا إلا في العتمة الرطبة. أأنتَ من يصرخ طلبًا للنجدة، فجأةً؟ وعلى حين غرة، ينبري رؤساء الشاباك المتعاقبون ومُنكرو التعذيبات المهنيون، ويستصرخون على الملأ، مرتجفين كمُدمنين: "إجلبوا لنا أدوات التعذيب، أعيدوا لنا المِشهرة والكمّاشة فمن دونهما لا حياة لنحياها!"... ألا تخجل بهم؟ إهدأ. أنا أومن حقًا بأنّ بوسعك أن تهدأ. علق لافتة في غرفة الطعام في مقر"الشاباك"، "التعذيب والإذلال ممنوعان في أية وضعية وفي أيّ حال"، وابدأ بالعمل مثل أيّ محقق في أيّ جهاز سريّ مهنيّ. فليس من العار أن تدير تحقيقًا كما تفعل الشرطة المنظمة. ماذا سيحصل لو اضطررتَ لتجنيد كمٍّ أكبر من الذكاء أثناء التحقيق؟ تذكّر كيف نجحتَ في الكشف عن نشاطات الحركة السّرية اليهودية، من دون أن يمرّ أعضاؤها بسلسلة من التعذيبات. فكّر بالطريقة التي نجحتْ فيها الشرطة في الكشف عن جرائم مركّبة وأكثر خطورة من إلقاء زجاجة حارقة، من دون الاستعانة بـ "الوسائل". فكّر بجميع الميزات! عندما يسألك روني أو دانا: "أبي، كيف كان يومك في العمل؟" سيكون بوسعك أن تقول لهم إنه جرت منافسة بالأدمغة، بأنك كشفتَ وحللتَ، ويمكنك أن تنظر إلى أعينهم وأن تنسى صورة نفسك مقابل المغسلة تغسل الدم عن يديْكَ، كما في المقطع الساخر الثاقب الذي قدمته "الخماسية الكاميرية". وعندما تداعب زوجتك في المساء، لن يتردّد في أذنيك صدى حديثك مع "ع.ق." المُهان، الذي كان مربوطًا على الأرض منذ الصباح، عندما سألتَه: "هل تمصّ لك زوجتك، وكيف ثدياها؟"، وهو يبكي، يبكي تحت قدميك. فكّر في آلاف السّجانين والجنود والجنديات والشرطيين والأطباء الذين حوّلتَهم إلى شركاء كتومين لخطاياك، الذين فرضتَ عليهم الربط والفكّ، الشدّ والإيقاظ، التطبيب والتأهيل، لمئات آلاف المستجوَبين في عشرات المنشآت. إنهم أحرار منك الآن. وفكّر، خصوصًا، بالنظرات التي ستتخلص منها. أتذكرها؟ كل العيون البنية التي توسّلت قليلاً من الرحمة، التي أدمعت ألمًا، التي قالت "سنفعل كل ما تريد، سنعترف بكل ما ستقول". لا يمكنك أن تنسى أنك كنتَ دائمًا على دراية بأنّ هذه العيون، وفي لحظة معينة، ستحوي نظرة واحدة مختلفة- ففي لمح البصر قرأتَ فيها وعدًا بالانتقام. أنت تذكر كم مرةً انتابتك رعشة وزحف في داخلك التردّد، عندما قالت لك العيون بأننا لن ننسى هذا الإذلال وهذا الألم، وأنهما سينفجران في وجهك ذات يوم. وأنت كنتَ على دراية، في أعماق داخلك، ورأيتَ في قلب البؤبؤ اللامع من قلة النوم، العبوة القادمة، من صنع يديْكَ. 1مثلت المحامية ليئه تسيمل اللجنة الشعبية ضد التعذيب في إسرائيل في قضية "التعذيبات" في المحكمة العليا. الرسالة المعنونة إلى رجل الشاباك أيًا كان، أو إلى كل رجال الشاباك، كُتب رأسًا بعد قراءة قرار الحكم في أيلول 1999.
ليئه تسيمل1