المحاضرون
|
عشر سنوات لـ عدالة:
حول العلاقة بين الإعتراف بالهويّات القوميّة ومسألة المساواة المدنيّة في القضاء
المحامي حسن جبارين
المحامي حسن جبارين, المؤسس والمدير العام لمؤسسة عدالة
أشكرك إيلان على كلماتك الدافئة. وأشكر كليّة الحقوق هنا في جامعة حيفا أيضًا على تنظيم هذه الندوة. من الواضح أنّني لا أشعر بالارتياح في أن أطري على عمل عدالة وتأثيره في الخطاب القضائيّ، لكوني صاحب مصلحة مباشرة. فلو فعلتُ ذلك لأصبحت أقوالي بمثابة "إطراء ذاتيّ"، أما لو وجّهت نقدًا ما، فستبدو كلماتي أشبه بالمصطنعة. وكي أخرج "نقيًّا وموضوعيًا"، اخترتُ أن أفتتح بالذات بوصف تاريخ قائمة المراجع في دورة: الأقلية العربية في القضاء الإسرائيلي، التي بوشر بها للمرّة الأولى في هذه الكليّة سنة 1997. كانت هذه أولى الدورات التي قُدمت في إطار كليّات الحقوق في البلاد، وكانت تلك هي السنة التي أقيم فيها مركز عدالة، إذ كان لي شرف أن أكون حينئذ مدرّس الدورة، وبعد مرور سنتين على ذلك، بدأت بتدريس الدورة نفسها في كليّتي الحقوق التابعتين لجامعة تل أبيب وللجامعة العبرية. لقد كانت قائمة المراجع سنة 1997 مختلفة عن بقية قوائم المراجع في الدورات الأخرى. كانت ضئيلة ونحيلة. فلم تكن هناك تقريبًا مقالات قد نُشرت في الدوريّات القضائية المتخصّصة حول مكانة الأقليّة العربية في إسرائيل، ولذلك، بدلاً من المقالات القضائية، فقد ضمت قائمة المراجع قصاصات صحفية عديدة لمقابلات ومقالات من مجالات أخرى. قرارات الحكم الصادرة عن المحكمة العليا الإسرائيلية التي شملتها قائمة المراجع كانت، في الأساس، قرارات تعود إلى الخمسينيات والستينيّات. لذلك، بدلاً من قرارات حكم جديدة، وهي التي لم تكن موجودة حينئذٍ، اشتملت القائمة على التماسات جديدة قدّمناها إلى المحكمة العليا وردود الدولة عليها.
خلال العقد الفائت وبمرور السنين، راحت قائمة المراجع تكبر وصارت أسمن وأسمك. استُبدلت الالتماسات بقرارات حكم، وبدأت المقالات القضائية تحتلّ مكان قصاصات الصحف. هكذا بدأت المسائل القضائية تتطوّر في الدورة إلى أن وصلت قائمة المراجع، مؤخّرًا، إلى حالة من الأزمة. قبل فترة غير طويلة، تلقيتُ مكالمة هاتفيّة من زميل لي في إحدى كليّات الحقوق التي أدرّس الدورة فيها، وأعرب عن تذمّره: "هذه المادة كثيرة على الطلاب، أقترح عليك أن تختصر وتقصّر قائمة المراجع". رحنا نفكّر سويةً كيف نقوم بعملية تخفيف الوزن. وأنا في العادة سيء فيما يتعلّق بتخفيف الوزن. قرار الحكم بشأن قانون المواطنة الذي يتناول حظر لمّ شمل عائلات فلسطينية في دولة إسرائيل هو الأطول، ويمتدّ على ما يزيد عن 200 صفحة. هل يمكن اختصاره من قائمة المراجع؟ "لا، فالحديث يدور حول أحد أهمّ قرارات الحكم". هل يمكن الاختصار منه؟ "أيضًا لا، فكلّ واحد من القضاة كتب وجهة نظر مختلفة خاصة به، وهناك أيضًا موقف أقلية وأكثرية". كانت الصعوبة التي واجهناها في عدد من قرارات الحكم مماثلة، مثلاً: قرار الحكم الذي تناول شطب مرشّحين عرب في انتخابات الكنيست 2003، في الأساس بسبب تعريف دولة إسرائيل كدولة جميع مواطنيها. والأمر نفسه كان بالنسبة لقرار الحكم بخصوص مكانة اللغة العربية في المدن المختلطة، والذي تناول، أيضًا، مسألة الحقوق الجماعية للأقليّة العربية. لضرورات الحديث، سأطلق على هذا النوع من قرارات الحكم هنا اسم: قرارات الحكم بشأن "الهويّات القوميّة". أي قرارات الحكم التي تناولت، من جهة القضاة، الفهم الدستوريّ لدولة إسرائيل كدولة يهودية. على الرّغم من ذلك، أين نجحت في اختصار قرارات حكم، او إدخال اختصارات عليها، في قائمة المراجع؟ كانت ضحيّتي قرارات الحكم التي تناولت الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، مثل: تصنيف البلدات إلى مناطق أفضليّة قوميّة لغرض منحها امتيازات في التعليم، ترميم الأحياء، تسرّب الطلاب العرب من النقب ومسائل مختلفة متعلّقة بالميزانيّات. هنا، لم يكن خلاف بين القضاة، سواء حين قبلوا الالتماسات أو حين ردّوها. فقد تمّ إصدار قرارات الحكم بالإجماع. وعلى هذا النوع من القرارات سأطلق اسم "المساواة المدنيّة".
سأتطرق هنا إلى نوعية هذه الالتماسات التي قدّمتها عدالة في العقد ألأخير. سأتطرّق أوّلاً إلى قرارات حكم "الهويّات القوميّة". في الماضي، وخصوصًا في الثمانينيات حتى مطلع التسعينيّات، دار جدل حول قرارات حكم المحكمة العليا بشأن تعريف دولة إسرائيل كيهوديّة: دولة تستند إلى التراث اليهودي أم يهودية غير دينيّة وأكثر علمانية. كان بطلا هذا الجدل هما القاضيين مناحيم ألون وأهرون براك. لكن هذا الجدل، الذي شغل الأكاديمية القضائية أيضًا، تجاهل تمامًا السؤال الأساسي المرتبط بإسقاطات تعريف الدولة كيهودية على حقوق المواطنين العرب. لقد تجاهل وجود المواطنين العرب سواء كأقليّة وطن أو بوصفهم يشكّلون خمس المواطنين. من يقرأ تلك القرارات أو يتمعّن في الجدل القضائيّ الأكاديمي الذي دار حينئذٍ، سيعتقد أنّه لا يوجد سوى يهود في هذه البلاد.
أما اليوم، فنعلم أنّ هذا الجدل لم يعد الجدل القضائيّ الأساسيّ حول مسألة "الدولة اليهودية" وهذا في ضوء قرارات حكم "الهويّات القومية". فقد أجبرت هذه الالتماسات المحكمة العليا الإسرائيلية على البحث في حضور المواطنين العرب. وهو حضور أدّى إلى انقسام لدى القضاة، وهو ليس انقسامًا قيميًا بين علمانيين ومتديّنين مثل ألون- براك حصرًا. ولنتمعّن، فعلى الرّغم من الانقسام فقد ظلّ الجدل القضائي بين القضاة في إطار الصهيونية. فمثلاً، في قرار الحكم الأخير الذي شطب لمّ شمل عائلات فلسطينية في دولة إسرائيل، حيث ادّعت نيابة الدولة أنّ الحظر في القانون يستند إلى تسويغات أمنية، صادق موقف الأكثرية، وخصوصًا موقف القاضي حيشين، على الحظر بالرّغم من غياب أيّة أرضية برهانيّة. أي أنّه يكفي أن يكون طالبو المكانة فلسطينيين من سكان المناطق المحتلة حتى يتم منع لمّ الشمل بينهم وبين أزواجهم الذين هم فلسطينيون مواطنون في إسرائيل. في المقابل، فإنّ موقف الأقلية بقيادة براك لم يبطل المنطلقات القيميّة لدى الأكثرية، بل طلب ألا يكون الحظر جارفًا وإنّما أن يستند إلى فحص فرديّ للحقائق في كلّ حالة. وليس صدفة أنّ أساس الخلاف بين الأقلية وبين موقف الأكثرية لم يدُر حول سؤال ما إذا كان قانون المواطنة المميِّز يصبو إلى غاية شرعية، بل حول تطبيق "امتحان النسبية"، وهو امتحان براغماتيّ في الأساس وليس امتحانًا قيميًا. صحيحٌ أنّ الجدل في قرار الحكم هذا لم يتطرّق مباشرة إلى مسألة الديموغرافيا، ولكن من الواضح أنها كانت المسألة الأساس خلف تسويغات القضاة. وفي قرار الحكم الذي تناول شطب مرشّحين عرب من التنافس في انتخابات الكنيست، وقف سبعة قضاة مقابل أربعة قضاة ضد شطب ترشيح د. عزمي بشارة وقائمة التجمّع الوطني الديمقراطي من التنافس في انتخابات الكنيست عام 2003، بسبب البرنامج الذي يسعى إلى جعل دولة إسرائيل دولة لجميع مواطنيها. ولكن تلك الأكثرية لم تفعل ذلك انطلاقًا من تسويغ أنّ مبدأ المساواة هو مبدأ كامل ومطلق بين المواطنين العرب واليهود. بل إنّ تسويغات الأكثرية برئاسة براك قامت على غياب أرضية برهانيّة تسمح بالشّطب. في المقابل، فإن موقف الأقلية سعى إلى شطب الترشيح حتى في غياب أرضية برهانية كهذه، وإنّما لمجرّد التناقض بين الصهيونية وبين دولة المواطنين. إنّ هذه هي أمثلة بارزة في قرارات الحكم التي تناولت مسألة الهويات القوميّة.
إذًا، فما هو الفرق المعياريّ الأساس بين توجّهَي أو بين معسكريّ القضاة، والذي تبدّى في قرارات حكم "الهويات القومية"؟ في رأيي، يكمن الفرق على الصعيد البراغماتي وليس القيميّ. أي، في النتيجة التي يسعى كلّ توجه أو كل معسكر إلى تحقيقها أو إقصائها/إبعادها. فالقضاة يوافقون على عدم قبول مبدأ حظر التمييز بين المواطنين كمبدأ مطلق. وكذلك، هناك موافقة متأصّلة لديهم، يجب بحسبها الحفاظ على تفوّق يهوديّ في دولة إسرائيل. هذه الأعراف تستوجب السؤال: أكثرية يهودية مقابل من؟ واضحٌ أنّ المقصود هو أكثرية يهودية مقابل العرب. عمليًا، يمنح هذا المنطق الدولة اليهودية شرعية اتخاذ خطوات تمسّ بحقوق المواطنين العرب بغية الحفاظ على هذا التفوّق. وبالتالي، فإنّ السؤال الأكبر هو: كيف يتمّ القيام بذلك؟ وهو سؤال على الصعيد الحقائقيّ وليس على الصعيد القيمي - المعياري. وهو، أي السؤال، يشكّل لبّ الخلاف في قرارات حكم "الهويات القومية". حول هذا السؤال والإجابة العملية عنه، نجد أن الفروقات هي أساسًا في النتيجة وليس في نقطة الانطلاق القيميّة. النقاش بين القضاة ليس نقاشًا قيميًا، بل إنّه على مدى البراغماتية (اليوم، يشكّل امتحان النسبية التجسيد لتلك البراغماتيّة). مثيرٌ للانتباه مثلاً، رغم أن التسويغات القانونية لقاضيين من قضاة الأغلبية في قرار الحكم في مسألة قانون المواطنة كانت أكثر قرباً إلى الأقلية لكنهم انضموا إلى النتيجة التي توصّلت إليها الأغلبية بقيادة حيشين. ولا أدّعي أبدًا أنّ القضاة جميعًا متشابهون على الصعيد القيميّ، فهناك بالطبع خلاف بينهم، ومن الواضح أنهم مختلفون، لكنني سأكتفي بالقول بإيجاز هنا لضرورات النقاش، بأنّ الخلاف القيمي بينهم لا يطال "الجوهر" القائم في تعريف الدولة كيهودية، حين يكون متعلقًا بمكانة المواطنين العرب.
أعود إلى قرارات الحكم بشأن "المساواة المدنية". غالبًا ما تناولت هذه القرارات التقسيمة المتساوية للخير العام، ولذلك فطابعها متصل بالميزانيّات. إن فحص هذه القرارات مثير كونه يفترض حياد مسألة الهويّات القومية. أحقًا؟
كما أشرت أعلاه، لم يكن القضاة منقسمين على أنفسهم في هذا النوع من القرارات، سواء حين قبلوا الالتماسات أو حين رفضوها، وعمومًا كانت القرارات تصدر بموافقة القضاة جميعًا. لذلك، فقد كان من السهل عليّ اختصار هذه المادة من قائمة المراجع. لكن، لو سُئلت ما إذا ما كانت الالتماسات التي تناولت "المساواة المدنيّة" كافية لإثبات وجود التمييز بين العرب واليهود لغرض نيل علاج قضائيّ، أي حتى تقبل المحكمة العليا الالتماس، فإنّ جوابي سيكون: "ليس بالضرورة". فقد كانت وجهة قرارات الحكم هذه مبهمة وغير مثابرة. عمليًا، كانت مثابرة في انعدام مثابرتها. تجدون هناك حالات يعترف فيها القضاة بوجود تمييز ولكنهم رغم ذلك يرفضون الالتماسات. مثلاً، في أول التماساتنا الذي طالب بالمساواة في تقسيم الميزانيّة بين العرب واليهود في الخدمات الدينية، قرّرت المحكمة العليا أن تمييزًا واضحًا قائم فعلاً في هذا المجال، كون العرب يتلقّون أقلّ من 2% من إجماليّ الميزانية، ولكنّ الالتماس عموميّ لأنه لا يستند إلى أرضية حقائقية كاملة، وبالتالي يجب رفضه. وسؤالي هو: كيف يمكن الإقرار بوجود تمييز فعلاً، والإقرار في الوقت نفسه أنّ الالتماس يفتقر إلى أرضية حقائقية ذات صلة؟ فوجود التمييز هو مسألة حقائقية! في قضية أخرى، مثلاً، تتعلق بالمساواة بين النساء العربيات والنساء اليهوديات، نلاحظ التوجّه نفسه. وكما هو معروف، ففي سنة 1994 قرّرت المحكمة العليا أنّه يجب انتهاج سياسة التفضيل المصحّح في استيعاب نساء لمجالس إدارة الشركات الحكوميّة. نتيجةً لهذا القرار ارتفع عدد النساء اليهوديات كعضوات مجالس إدارة بنسب عالية نسبيًا. في العام 2001 قدّمنا التماسًا مطالبين بانتهاج المبدأ المذكور حيال النساء العربيات أيضًا لأنّ عدد النساء العربيات كان أقلّ من 1% من مجموع النساء عضوات مجالس الإدارة. حاججنا بأنّ الحديث يدور حول تمييز بين النساء على خلفية القومية في كلّ ما يتعلق بتطبيق قرار الحكم الصادر عام 1994. لكنّ المحكمة العليا، ممثلةً برئيسها براك، رفضت الالتماس بنفس التسويغات الإجرائيّة: غياب أرضيّة حقائقية. مرّة أخرى، من غير الواضح لنا ما هي الأرضية ذات الصلة بخصوص هذا الالتماس إن لم تكن إثبات وجود فجوة كبيرة وغير مبرّرة. مقابل هذا القرار، قبلت المحكمة العليا التماسات أخرى أقرّت فيها بوجود تمييز يستوجب إصلاحًا. المثال البارز على ذلك هو الالتماس الذي سعى إلى إلغاء تصنيف البلدات إلى مناطق أفضلية قومية في كلّ ما يتعلق بالامتيازات في التعليم. إذ تقرّر أنّ عدد البلدات العربية المصنّفة كمنطقة تطوير أ هو 3 مقابل ما يربو عن 500 بلدة يهودية. هذا الحكم كان بقيادة باراك وحيشين وبموافقة سبعة قضاة. لكن، مرّت ثماني سنوات على يوم تقديم الالتماس وحتى إصدار المحكمة العليا قرار حكمها النهائيّ فيه.
على الرغم من ذلك، فإنّ الفصل التام الذي قمتُ به بين نوعي قرارات الحكم كان مصطنعًا. فلا مجال للفصل بينهما لأنّ مبدأ المساواة غير قابل للفصل. لقد رأينا أنه حين لم يكن هناك اعتراف بالمساواة بين الهويات القومية، لم تكن أيضًا مساواة تامة على الصعيد المدني. إنّ الاعتراف بالهويات القومية هو اعتراف بالحقوق الجماعية بشكل متساو وعلى الصُّعد كافةً. إن غياب الاعتراف عن هذا النوع سيؤدّي حتمًا إلى تعاطٍ براغماتي وغير قيمي مع مسألة المساواة على الصّعد الأخرى، وهو تعاطٍ سيكون مثابرًا في انعدام مثابرته.
إنّ من يسعون إلى الفصل ويدّعون أنه يتوجّب على أعضاء الكنيست العرب، مثلاً، التمحور في موضوعات الميزانيّات والمساواة اليومية للمواطنين العرب فحسب، وعدم الانشغال في مسائل الهويات القومية بما يشمل الاحتلال، إنّما يسعون إلى تأبيد التمييز ضدّ المواطنين العرب. سأجسّد الأمر بالمقارنة مع صعيد آخر: حقوق النساء. إنّ دفع حقوق النساء في مجتمعات ديمقراطية ناجم عن الاعتراف بالاختلاف الشرعي بين النساء والرجال، وليس فقط بسبب الاعتراف الرسمي بمبدأ حظر التمييز. لنفترض أن دولة متخيّلة ما لا تعترف بالاختلاف الشرعي بين الرجال والنساء، لكنها تدعي أنّها تحظر التمييز بين المواطنين. على الرّغم من أنّ الحديث يدور حول ادعاء عبثيّ، تعالوا بنا نفحص تطبيقه. في هذه الدولة سيكون من المبرّر، مثلاً، التمييز ضدّ النساء في القبول للعمل لأنّه من الشرعي تفضيل الرجال لعدم وجود فترة حمل أو عطلة ولادة لديهم. لكن، في اللحظة التي يتم فيها قبول النساء للعمل يكون من المحظور دفع أجر للرجل أكثر من المرأة مقابل نفس العمل، لأنّ هناك حظرًا على التمييز بين المواطنين[1] . مع ذلك، سيكون من المسموح عدم دفع أجر مقابل عمل للمرأة إذا خرجت لعطلة حمل أو ولادة، على سبيل المثال! واضح أيضاً أن في هذه الدولة المتخيّلة يمنع التفضيل المصحّح (Affirmative Action) صالح النساء لأنه لا يوجد اعتراف قانوني بالغبن والتمييز التاريخي ضدّهن ولأن هويتهن ليست مسألة تخص القانون. بمعنى آخر يعترف القانون بهويات النساء في حالة واحدة عندما تكون هويتهن ضد صالح حقوقهن. وفقًا لكلّ توجّه، ستضع هذه الممارسة القضائية النساء في مكانة متدنية من مكانة الرجال، مما سيشرعن التمييز ضدهنّ في جميع المجالات. على أية حال، لن تكون مسألة مساواة النساء مفهومة ضمنًا، بل سيتم تناولها في كل حالة على حدة، بما يخضع لتفوّق الرجال. أي أن كل شيء سيكون خاضعًا لاعتبارات براغماتيّة.
الممارسة القضائية في هذه الدولة المتخيّله التي لا تعترف بالحقوق الجماعية للنساء من جهة ، وتقول أنها تحترم مبدأ عدم التمييز من جهة أخرى شبيهه جداً للممارسة القضائية للدولة التي تعرّف نفسها بالدولة "اليهودية والديمقراطية". وهي ممارسة لا تكتفي بحقّ تقرير المصير للمواطنين اليهود بمفهوم أنّ دولة إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي فيها اللغة العبرية لغة رسمية (الأمر الذي يضمن ازدهار وتطوّر الثقافة العبرية)، والدين اليهودي رسميّ ومعترف به، واسمها عبري - يهودي. بل إنه يوجد في أساس تلك الممارسة نفي للاعتراف التام والمتساوي بالحقوق الجماعية (اللغة، الثقافة، الغبن التاريخي، إلخ..) للمواطنين العرب، من جهة، واهتمام بالحفاظ على تفوّق يهوديّ، من جهة أخرى. لذلك فإنّ القيمة الموجّهة لهذا التوجّه هي رفض المبدأ الكونيّ بخصوص المساواة التامة بين جميع المواطنين وفي جميع المجالات. وهكذا، يتمّ تناول مسألة التمييز ضد العرب، كما كان تجاه النساء في الدولة المتخيّله، بموجب كل حالة على حدة وبموجب الظروف المتغيّرة من حين إلى آخر، وكلّ هذا بما يخضع للتفوّق اليهوديّ.