المحاضرون
|
د. إيلان سبان
الهوية والقانون والسياسة:
تقييم مرحليّ وأمور للمستقبل
د. إيلان سبان هو محاضر في القانون الدستوري في كلية الحقوق، جامعة حيفا
جئنا اليوم للاحتفال بمناسبة تملأ قلوب الكثيرين منّا، عربًا ويهود، بسرور كبير. عقد من السنين على تأسيس عدالة. أودّ أن أهنّئ حسن جبارين، مؤسّس مركز عدالة ومديره العام، وأن أهنّئ آخرين من طاقم عدالة الموجودين معنا هنا اليوم، وآخرين ممن يتواجدون في مواقع بعيدة، بلفاست، نيويورك وغيرها.
إنّكم لا تستحقّون التهنئة فحسب، وإنّما الشكر العميق، أيضًا. شكرًا على مساهمتكم الكبيرة لحقوق الإنسان، شكرًا على مساهمتكم للمجتمع الإسرائيلي حيث، بفضلكم، باتت أوجه معيّنة من كينونتها أكثر نزاهة، شكرًا على مساهمتكم لأجل الشعب الفلسطيني في ضائقته الكبيرة، وشكرًا على الدّعم الذي تقدّموه من أجل إبقاء الأمل في تعايش أكثر نزاهةً في بلادنا المعذّبة.
إنّ عدالة، في نظري، هو أحد أهمّ التنظيمات في المجتمع المدنيّ في إسرائيل. ليس من أهمّ التنظيمات التي انبثقت لدى الأقلية العربية الفلسطينية فحسب، بل من أكثرها أهمية بين تنظيمات المجتمع المدني في المجتمع الإسرائيلي كافة. ولا أقول ما أقوله بكوني مضيفًا فحسب، بل بشعور تام من الصراحة. وما هي تسويغاتي؟ التسويغ المركزي هو أن عدالة غيّر نموذجًا سابقًا، نمطًا سابقًا، من الحراك داخل الحيّز الجماهيري الإسرائيليّ.
سأبدأ بنقطة قد تبدو مبتذلة. إذا كانت التحرّكات القضائية وأهمّ الالتماسات بخصوص الأقليّة العربية-الفلسطينية قد تبلورت، في السابق، عن طريق جمعية حقوق المواطن، وكانت قليلة نسبيًا – عنصر واحد في الأجندة المثقلة لجمعية حقوق المواطن – فقد قام تنظيم قضائي جديد، مستقل حازم، مهني بصورة استثنائية، يخصّص أجندته كاملةً لمظالم الأقليّة.
لكنّ النقطة الأهمّ هي أنه في العام 1996، حين أقيم عدالة، لم يشكّل التنظيم الجديد مجرّد إضافة كمية للقوى البشرية المهنية وللالتماسات، بل شكّل دخولاً دراماتيكيًّا لـ"رأس مختلف". ليس مجرّد مجموعة إضافية تتلقى المساعدة من مًُريدي الخير لها في المجموعة الأخرى، بل كان ظهورًا لمجموعة تتدبّر أمرها بنفسها، تعبّر بصوتها عن رغباتها، تكشف مواهبها – وهي مواهب كبيرة جدًا. أصوات بليغة، تتحدّث عبرية فصيحة مثلنا نحن اليهود، تتحدّث الإنجليزية (أفضل منّا في أحيان كثيرة)، وتتحدّث العربية التي نفتقر إليها. ولكن، فيما يتجاوز الصوت البليغ والحازم، ظهر هنا تفكير صافٍ، مرتّب، وفي أحيان كثيرة، مقنع جدًا.
إحدى مآثر حسن هي أنّه عرف كيف يسمّي الأشياء بمسمياتها وهي في طور البداية. فقد تحدّث عن عدالة كواحد من تنظيمات حقوق الإنسان التغييرية. أي، التنظيمات ذات الطموح والرؤية؛ تلك التي تسعى إلى تغيير اجتماعي عميق، وليس شكليًا؛ لكن الأهمّ، هو أنّها تفهم بشكل عميق أن تغييرًا كهذا لن يأتي من الخارج، ولن يتمّ في الخارج، من دون تغيير جوهريّ في داخل المجموعة. في نظري، إنّ سجلّ إنجاز هذا التغيير الجوهريّ في داخل مجتمع الأقلية هو مختلط. نجاحه جزئيّ؛ وسأتعرّض لذلك، لاحقًا، ببعض الكلمات. لكنّ هذا الإدراك، والجهود التي بُذلت باتجاهه، هي فعلاً إحداثيّات واضحة لتنظيم تغييريّ.
لقد تغيّر النموذج السابق بطرق إضافيّة. فعدالة خلق فجأة خصمًا مهنيًا عربيًا - فلسطينيًا مماثل الوزن؛ يمعن (نفسيًا ومهنيًا على السواء) بمستوى النظر في المدّعين الذين يمثلون الدولة في قسم الالتماسات. محامو ومحاميات عدالة عرفوا من ذي قبل لغة النقاش في المحكمة العليا وتحدثوا بهذه اللغة، بشكل مهذب وبدون طأطأة للرأس، في الوقت نفسه. وهم (جنبًا إلى جنب مع جمعية حقوق المواطن) أبدوا مهنية من أعلى النوعيّات. معرفة هائلة، عميقة بالقضاء الدستوري، القضاء الإداري، القضاء الدولي والقضاء الدستوري المقارن.
لكن يوجد لعدالة إنجاز كبير جدًا آخر، لمّحت إليه سابقًا، حين تحدّثت عن كونه تنظيمًا تغييريًا. فقد غيّر أمورًا داخل المجتمع الذي انبثق منه، وأحدث تغييرًا في أعقاب ذلك – تغييرًا معينًا – في المستوى السياسي للعلاقات بين الأقليّة وبين الدولة. هنا أقول شيئًا مركبًا سأحاول توضيحه باختصار.
لقد عاشت إسرائيل، هذا الصيف، وخصوصًا مجتمع الأكثرية في داخلها، انكسار الوضعية التي تعوّدت عليها منذ سنة 1967، أو منذ اتفاق السلام مع مصر، على الأقلّ. وهي وضعية الهيمنة: القدرة على إدارة شبكة العلاقات بينها وبين خصومها من طرف واحد. وها هي قد اكتشفت الآن – أكثر من أيّة لحظة في الماضي القريب –، وبشكل قاسٍ، عزم وقوّة خصومها، وكذلك حدود قوّتها هي، حدود التكنولوجيا خاصتها، وربّما حدود ثقافتها الملموسة – وربّما أنها تتنبّأ الآن بنهاية هيمنتها. من الصّعب معرفة كيف ستردّ إسرائيل، وهو، أيضًا، ليس موضوعنا اليوم. إنّ النقطة التي يهمّني استرعاء الانتباه إليها هي قريبة ومختلفة، في الوقت نفسه.
إلى حدّ ما، يشكّل عدالة بدوره، أيضًا، نوعًا من تآكل الهيمنة في علاقات اليهود والعرب داخل إسرائيل. لكنّ الفرق الهام، الذي أودّ التطرّق إليه، بين حرب لبنان وبين هذه السيرورة، يكمن في أنّ الاطار (setting) الذي يحدث به تآكل الهيمنة هذا هو بين شركاء في المجتمع نفسه، شركاء في "المواطنة" نفسها، وهناك نقطة هامة إضافية، وهي أنه يوجد هنا اختيار استراتيجيّ لوسائل ديمقراطية لغرض تحقيق تغيير في وضعيّة الأمور. بكلمات أخرى، إنّ عدالة وتوجّهه هما، في الوقت نفسه، مسار لجعل الجوانب غير النزيهة للواقع الإسرائيلي تتآكل، وهو، أيضًا، مسار يبتعد بحيطة كبيرة عن كل مظاهر العنف أو تأييد العنف.
هناك شيء لا يُطاق بالنسبة للبشر، حين يكونون متعلّقين بالنيّة الحسنة لدى آخر، وهو آخر لا تشكّل النية الحسنة الميزة الأبرز أو الأكثر مواظبة لديه. فالصعوبة التي يشعر بها البشر في حال كهذه هي الانعكاس النفسي للأمر القطعي لدى كانط. يشعر البشر بالذل والذعر حين يكونون لعبة، وسيلة، في خدمة أغراض واحتساب فائدة الآخر. وإنه حقًا لمبارك جدًا، حين يجد البشر طريقًا للخلاص من تلك العلاقات التراتبية غير اللائقة في مسار غير منوط بسفك الدماء. وبالفعل، فالقليل من فجوات النفوذ والقليل من الشعور بالذل المرافق للضعف والتعلق بمجتمع الأكثرية اليهودي، قد تبدّد لدى الأقلية العربية حين دخل عدالة إلى الصورة. فهو بات، أوًلاً، نوعًا واضحًا من الـ role model المثير للحماس والفخر المبرّر. ثانيًا، قام بدور تنسيق وتنظيم القوى الأخرى لدى الأقلية، وأثر على اتجاه سيرها في المستويين الاجتماعي والسياسي وليس القانوني فقط. ثالثًا: إنّ الاستعارة التي تخطر في بالي هي عن مصارع جودو ينجح في استخدام قوّة/وزن الخصم لأغراضه هو. وقد نجح عدالة في أن يستخلص قوّة حقيقيّة لجمهور الأقليّة من داخل شبكة النقاشات التي بلورها جمهور الأغلبيّة في إسرائيل لأغراضه هو، الماهوية منها والخطابيّة. وخلاصة الأمر، إن عدالة ساعد في بلورة الأقلية كصاحبة قوة غير هامشية مقابل الدولة.
أودّ أن أكون أقلّ تجريدًا بالنسبة لادعائي الوارد أعلاه، وذلك من خلال مثال تجسيدي واحد. والحديث هو عن دور عدالة في رد الجمهور العربي على أحداث أكتوبر. ففي ذروة الانحطاط الرهيب في علاقات العرب واليهود في إسرائيل في العهد الأخير، كان عدالة هو الجهة التي استعادت الأنفاس أسرع من الجميع. فقد نظّم شبكة كبيرة ولافتة من المحامين والمحاميات العرب لتمثيل عشرات أو مئات المعتقلين العرب؛ وكان ممثلاً لعائلات القتلى وكذلك للقادة العرب الذين تلقّوا تحذيرات في لجنة أور؛ وقد أسمع ادعاءات ذات صدى جلي في إحدى أهم الوثائق التي أُلفت في المجتمع الإسرائيلي بخصوص العلاقات بين المجتمعات داخله – وهي تقرير لجنة أور؛ وكان هو من تابع ماحش، وقدم تقارير تختلف عن معطياته أو إجراءاته. خلاصة الأمر، عدالة هو من لم يتح للمجتمع الإسرائيلي – اليهودي بأن يقلب صفحة من النسيان على هذا الفصل القاتم من ماضيه القريب. وهو يقوم بكل هذا من دون كلل (وهو أمر طبيعي جدًا في النضالات الطويلة والصعبة).
بعد هذه الكلمات الافتتاحية الطويلة أود أن أفتتح الندوة. ففي خاتمة المطاف، لم نأت فقط لسماع وإسماع مدائح – مهما كانت صادقة. أمامكم أربعة أشخاص شركاء في أمرين، على الأقل، وهما أن حقوق الإنسان مهمة جدًا بالنسبة إليهم، وأنهم قلقون. وأسمح لنفسي بالتحدث باسم المشاركين في الندوة – نحن نشعر بقلق عميق، كغالبية الحاضرين في هذه القاعة، ونحن نبحث عن طريق. ولذلك فإن السؤال التالي سيكون جزءًا هامًا من تحليلنا. كيف يتوجب على عدالة أن يعمل، كيف يتوجب على الأقلية العربية - الفلسطينية أن تعمل، كيف يتوجب على المجتمع الاسرائيلي أن يعمل إزاء الأفق القاتم الماثل أمامنا، أمامنا جميعًا؟
أودّ تقديم مساهمتي في النقاش بخصوص السؤال الذي طرحته أعلاه – السؤال حول وجهة عدالة، الأقلية والمجتمع الإسرائيلي برمته – عبر نقطتين.
1. إن حاجة عدالة في أن يكون تنظيمًا إجماعيًا (داخل مجتمعه) هي حاجة طبيعية، لكن توجد لها نواقص غير صغيرة. ألا توجد طريقة أفضل للتعاطي مع التوتر الذي يظهر هنا؟ عينيًا، أرغب في طرح المسألة التالية، كسؤال: لماذا لا ينشط عدالة (أو، لماذا لا يسمع صوته الأخلاقي، على الأقل) بشأن مسائل تدور حول نقاط ضعف المجتمع الذي خرج منه؟ ما أفكر به، في الأساس، هو مكانة النساء فيه؛ مكانة المثليين والمثليات؛ مشاكل طائفية حقيقية؛ قوة الحمائلية الزائدة.
لا يمكن لتنظيم حقوق إنسان أن يصمت تجاه هذه المسائل. مثلاً: من الصعب عليّ تقبل حسمكم، يا حسن، بمعارضة التعديل بخصوص محاكم الأحوال الشخصية [تعديل يمكّن النساء العربيات من التوجه (في قسم من أحكام العائلة) إلى المحاكم المدنية وليس إلى المحاكم الشرعية فحسب]. علاوة على ذلك، أرى إشكالية في خمولكم النسبي في هذه المسائل كتنظيم للتغيير الاجتماعي أيضًا. وأسوق هنا ادعاءات أسعد غانم، وكذلك استنتاجاتي من التأمّل في مجتمع آخر – المجتمع الكندي. فالتحوّل الحقيقي في المجتمع الكندي تم حين حدث تحوّل حقيقي لدى الناطقين بالفرنسية في كويبك. "الثورة الهادئة" في الستينيات. وهو تحوّل نحو الحدثنة، العلمنة. أعرف كآخرين أن العوامل التي أتاحت هذا التحوّل هناك ناقصة جزئيًا هنا، في ظروف الأقلية في إسرائيل، لكن لا أستدل من هذا أن الحدثنة ودفع حقوق الإنسان داخل المجتمع نفسه هما ليسا الاتجاه اللائق لسير الأمور.
2. وهنا أصل إلى النقطة الأساسية التي أرغب في طرحها. البحث عن مسارات ذات قوّة لإحداث تغيير في علاقات اليهود والعرب داخل إسرائيل.
كما قلت في بداية حديثي، يوجد لعدالة مستويان وربما ثلاثة مستويات أساسية من التأثير. المستوى القانوني، السياسي والثقافي. في المستوى القانوني لدى عدالة دور لا حاجة للإسهاب في وصف أهميته – دور جاسر. فنشاطه الأساس يتم في القضاء الإسرائيلي، والقضاء الإسرائيلي مغروس داخل نموذج الدولة اليهودية والديمقراطية، وبذلك فإنّ مهنية عدالة، جنبًا إلى جنب مع الدعم الجوهري للمحكمة العليا، ينجحان (بين مرة وأخرى) في دفع جدران هذا النموذج. وينجحان في جعل الدولة اليهودية والديمقراطية أكثر بشاشة تجاه الأقلية، وأكثر سخاءً أحيانًا. بصياغة أخرى، ينجح عدالة بنشاطه في الحفاظ على خيار وسطيّ، كالذي يمرّ بين قطب إسرائيل كدولة مركزانية إثنيًا، مميّزة، تفتقر إلى الأمل وبين أمل الأقليّة الكبير، الأمل في دولة ثنائيّة القومية، الذي هو إمكانية مرعبة/تابو من ناحية مجتمع الأكثرية اليهوديّة.
فكّروا بقرارات حكم مثل مناطق الأفضلية القومية؛ مثل قرار حكم طيبي وبشارة (إبطال قرارات الشطب في لجنة الانتخابات المركزية)؛ قرار حكم بشارة بخصوص الحصانة الجوهرية المكفولة لتصريحات عضو كنيست؛ قرار حكم بكري (جنين جنين الذي مثله المحامي أفيغدور فيلدمان)؛ فكروا بقرار حكم عدالة وجمعية حقوق المواطن ضد المدن المختلطة (بخصوص وضع اللافتات بالعربية)؛ فكروا بتقرير لجنة أور؛ فكروا بقرار الحكم بشأن ضابط الشرطة بنتسي ساو. هذه كلها وقرارات حكم أخرى تتضمن أكثر من مجرد كلمات مصالحة وتصريحات. وهي تعبّر عن دولة تشكل القيم الديمقراطية بالنسبة إليها قيمًا حقيقية، وهي مستعدة لأن تدفع جزءًا من ثمنها على الأقل. إن الصعوبة الكبرى هي أن قرارات الحكم هذه ليست الصورة كلها. فقد أخفق عدالة غير مرة في محكمة العدل العليا. لم يحظَ، أحيانًا، بعلاج قضائي بمقدوره تغيير الواقع. وفي أحيان أخرى، أخفق إخفاقًا أكبر. وسأذكر أقسى الأمثلة وأكثرها مثارًا للرعب – قانون المواطنة والدخول إلى إسرائيل الذي يحظر لمّ شمل عائلات في إسرائيل مع أزواج فلسطينيين (في أعمار محددة). هذا القانون بقي على حاله، بمصادقة 6 قضاة ضد 5. إذًًا، أيّ إسرائيل هي تلك التي تتأمّل فينا من خلال الغيوم المتلبّدة التي تظللنا، وماذا سيحدث حين يتفاقم الوضع مقابل الفلسطينيين أكثر؟ هل هي إسرائيل قانون المواطنة والدخول إلى إسرائيل أم أنها إسرائيل بروح لجنة أور؟ وماذا بقي من هذه الرّوح بعد 3 سنوات على إسماعها؟ أنا أقترح على عدالة وعلى الأقليّة برمّتها، كما أقترح على نفسي وعلى آخرين، عدم اليأس. أوّلاً، لم يضِع الأمل في التغيير. المجتمعات البشرية تتصرّف في أحيان متقاربة بشكل جدليّ، ويبدو لي أنّه لا يزال في إسرائيل قوّة للشفاء. ثانيًا، ليس لدينا امتياز فقدان الأمل والانحدار إلى السلبية أو انتظار منقذ أجنبي. لا يقف المنقذون بالدور. لا يبدو أنّ هناك من في وسعه إنقاذنا من أنفسنا – سوى نحن أنفسنا.
ما هي نصيحتي هنا، لعدالة، للأقلية وللمجتمع الإسرائيلي برمته؟ إنها نصيحة تتوجّه حاليًا إلى دور عدالة السياسي. اقتراح إلى من هو جزء هام من النخبة المثقفة لدى الأقلية، ويقدّم المشورة للقيادة السياسيّة العربية، ولديه حوار مع القيادة الفلسطينيّة أيضًا، مع مروان البرغوثي في السجن ومع آخرين.
أنتم لستم فلسطينيين في قوميّتكم وإسرائيليين في مواطنتكم فقط. ولستم فقط تنظيمًا لحقوق إنسان وتنظيمًا للتغيير الاجتماعي. أنتم (دون شاعرية زائفة) أشخاص تجري الإنسانية في عروقككم، كما تجري في عروق إنسانيين آخرين. وبهذا، فبمقدورنا التحدّث معا باسم هدف يصعب رؤية ما يفوقه أهمية - وقف التضحية بالبشر التي نقدّمها قربانًا للإله، إله مخاوفنا المبالغ بها، وطموحنا إلى الأمن المطلق أو إلى العدل المطلق. ما الذي ينبع من هنا برأيي؟
أ. لقد استغرقني وقت كي أفهم، لكني فهمت وذوّتّ أن الطلب من الأقلية العربية الفلسطينية، دون غيرها، أن تكون في طليعة التسويات المؤلمة بين الشعب الفلسطيني وبين الإسرائيليين- اليهود، هو إشكاليّ جدًا. من الصّعب عليّ الطلب ممّن لم يُقتلعوا من أراضيهم، ولم يتحوّلوا إلى لاجئين، والمتّهمين بالأنانية، بالضّعف، وبالالتصاق بـ"المناعم" – أن يقودوا، هم دون غيرهم، مسيرة من التنازل عن ممارسة حق العودة إلى داخل إسرائيل. هذا الطلب قاسٍ جدًا. لكن، رغم ذلك، سأعود إليه فورًا.
ب. وفهمت أيضًا، وهو ما تقبّلته كشرعيّ، أنّ القليل الذي يمكن للمواطنين العرب القيام به، هو إطلاق صرخة شعبهم، والشّعور بالتضامن الشديد معه.
أفهم، أيضًا، أنّ أحد التعابير الواضحة عن هذا التضامن هو عدم الاستعداد للمشاركة في الخدمة العسكرية وفي الخدمة المدنية على حدّ سواء. إنّ "الصفقة" التي تبدي أجزاء من المجتمع الإسرائيلي - اليهودي استعدادًا لعرضها على الأقليّة هي من النوع القائل "تنازلوا عن تضامنكم مع شعبكم، ونحن في المقابل، سنتعامل معكم، بتشكّك أقلّ ونحسن من مكانتكم"، أو "إذا كنتم تريدون مساواة في الحقوق التزموا بالمساواة في الواجبات؛ هاتوا على الاقل خدمة وطنية/مدنية". لكن، عدم الخدمة (بنوعيها) هو إحدى الطرق الوحيدة التي يمكن لأبناء الأقليّة عبرها التّعبير عن احتجاج غير عنيف إزاء ما تقوم به دولتهم لشعبهم منذ سنين طويلة وأكثر.
ج. أفهم أيضًا (رغم أنّني لا أوافق على الاستجابة إلى ذلك) أنّ أبناء مجتمع الوطن يرغبون، في المستوى المبدئيّ، في تسوية لا تقلّ عن الشراكة التّامة بين المجتمعات القوميّة. أي أنّهم يسعون – في المستوى المبدئي، في مستوى العدل – إلى "شراكة قوة" تامة، لدولة ثنائية القومية.
د. وأخيرًا، أوافق على أن المجتمع الإسرائيلي - اليهودي يجب أن يفهم أنه ليس بمقدوره الطلب، لا من الأقلية ولا من الشعب الفلسطيني برمّته، التنازل عن فكرة العدل خاصته أو عن روايته التاريخية. إن كلّ ما يمكن تأمّله هو الاستعداد لقرارات سياسية تكون أقلّ تشددًا من مواقف الانطلاق الرئيسية.
هـ. كل ما في وسع إسرائيل القيام به، وبحقّ، هو وضع مطالب وتقييدات بالنسبة إلى الممارسات التي تُمارس باسم فكرة العدل الخاصة بالأقلية. إنها مخوّلة بمطالبة الأقلية الفلسطينية في إسرائيل بالتشديد على البقاء في إطار الوسائل السياسية المفتوحة لنضالاته الجماهيرية (وهي مسارات يجب أن تظل مفتوحة أمامه). أما الوسائل العنيفة – كالإرهاب أو الكفاح المسلح – فهي خارج ذلك الإطار. يُحظر على الأقلية أن تكون ثنائية الموقف تجاه العنف، فعندها تبرز إشكالية أخلاقيّة حادة، وعندها، أيضًا، تلتبس جدًا "الهويّة الثالثة"، هوية من هم، في الوقت نفسه، فلسطينيون ومواطنون إسرائيليون. واذا تشوّشت هذه، فإن خيار تقسيم البلاد إلى دولتين سيفقد المزيد من معناه. ومع ماذا سنبقى حينئذ؟ - سنبقى مع صراع مدمّر جدًا على شاكلة "كل شيء أو لا شيء".
وها انا أرى هنا للأسف، قادة عربًا – شبه مؤكّد بسبب الإحباط من الوضع داخل إسرائيل، وبفعل الضائقة العميقة العائدة إلى معاناة الشعب الفلسطيني – يتركون التشديد على الامتناع عن العنف. وهم يظهرون انجذابًا ظلاميًّا، ويبدون ثنائية مثيرة للقلق على أية حال، تجاه الكفاح المسلّح. وههنا يوجد لكم – الأشخاص في عدالة - دور جماهيريّ - سياسيّ حقيقيّ، في النضال ضد هذه النزعة التي قد تكون مدمّرة جدًا.
و. وبالمناسبة، من المهمّ الانتباه في هذه النقطة الى أن هناك واجبات موازية تنشأ والتي يجب توجيهها إلى إسرائيل. في الأساس واجب مطالبة الدولة بالاكتفاء بتقييدات على الوسائل، خلافًا للتقييدات على الأهداف. فالبند 7أ من قانون أساس الكنيست، في سياق طابع إسرائيل القومي، غير مبرّر، ويجب إلغاؤه. ومثلما لا نضع شروطًا على نشاط أحزاب حريدية في الكنيست، رغم تأييدها لدولة دينية (دولة من شأنها إلغاء طابع إسرائيل الديمقراطي، هكذا، وكم بالحريّ، من اللائق ألا نشترط نشاط الأحزاب العربية بقبول طابع إسرائيل اليهودي.
أودّ أن أختم بسؤال سيكون بالتأكيد صعبًا بالنسبة إلى الجمهور العربي - الفلسطيني، الذي لمّحنا إليه أعلاه. وهو موجّه إلى النّخب الثقافية والمهنية لدى الأقلية، وعدالة من ضمنهم. هل أنّ كونكم "عرب 48" يمنعكم من النشاط كمثقفين إنسانيين، نعم إنسانيين، والمجيء والقول للشعبين اللذين ترتبطان بهما برباط وثيق – الشعب الفلسطيني والشعب الإسرائيلي اليهودي – إن التنازل عن حق العودة إلى داخل إسرائيل، بعد 60 سنة على النكبة، هو ما يجب القيام به لوقف سفك الدماء الرهيب. أو، بكلمات أخرى، إنه يجب التوصّل إلى تسوية حول دولتين لشعبين في حدود الخامس من حزيران 1967، وإنه يجب التنازل، أساسًا، عن ممارسة حقّ العودة إلى داخل إسرائيل. [انتبهوا إلى أنّني لا أتحدّث عن مسألة المهجّرين؛ فهي بنظري مسألة مختلفة جدًا].
إن الإجابة المضادة الفورية المتوقعة تجاهي هي التالية: كنْ أنت مثقفًا إنسانيًا وأقنِع شعبك بالسماح بحق العودة الفلسطينية إلى إسرائيل، وعندها سيتوقف سفك الدماء. هذا الادّعاء هو ادّعاء مشروع، ولكنه بنظري ادّعاء غير عميق، للسبب الآتي. لو كنا خلف حاجز الجهل – لا نعرف إن كنا يهود أم فلسطينيين، ونعرف فقط شيئًا عن طبيعة الإنسان وعن الظروف الراهنة لإسرائيل - فلسطين، والقليل من المعرفة عن السياسة المقارنة والقليل من المعرفة عن التاريخ المعاصر، فعندها سنوافق، كما يُخيَّل إليّ، أنه لا يمكن أن يكون مسعى إلى حق العودة كشرط لوقف العنف دون أن يجرّ هذا الشرط عنفًا هائلاً. وبشكل مشابه، لن يُعقل وجود دولة ثنائية القومية إسرائيل- فلسطين، لأنها ستنهار كقبرص في الستينيات أو يوغوسلافيا في التسعينيات. من الصعب أن نجد نموذجًا ما لدولة ثنائيّة القوميّة مستقرّة، نشأت على خلفيّة انعدام ثقة حادّ وسفك دماء قريب وقاسٍ.
إجمالاً، فالمسار الممكن ليس بالضرورة مسار جنوب أفريقيا في العام 1994، فالاحتمال الأكبر هو الحروب البلقانية، والتي صحيح أن صربيا بقيت في نهايتها متألمة ومقلّصة المساحة، ولكن لم تنشأ صربيا ثنائية القومية، لا بل لم تختفِ. انظروا كم من الدماء قد سفكت خلال ذلك. [1] أليس من واجبنا جميعًا – واجبنا الإنساني - التنازل عن طموحات عدل كهذه أو تلك إذا ما كان ثمنها المتوقع غير محتمل بمفاهيم المعاناة الإنسانية؟ لربما إن تحقيق عودة اللاجئين إلى جزء من وطنهم – الدولة الفلسطينية التي ستقام، إن شاء الله، بسرعة في أيّامنا – لا تبدو تحقيقًا للعدل التام، لكن الاكتفاء به سيوفّر الكثير من الحياة المهددة بالفقدان والعائلات الثاكلة.
وقد تقولون لي، أنت عمليًّا تهدّدنا؟ كيف يستقيم ذلك مع الإنسانية التي تدّعيها؟ وجوابي هو أنّ أحداثًا بلقانيّة تهدّدنا جميعًا. إنّها تخيفني مثلما تخيفكم. تمعن الإنسانية في أمور مركبة من خلال جهد متواصل، في الوقت ذاته، أكان ذلك لغرض الإنصاف أو الاتّزان. وعليه، فإنّها تجعلني في الوقت نفسه أبتعد، شخصيًّا، عن المشاعر القومجيّة، لكن الاعتراف بوجودها المتجذّر لدى الآخرين؛ وهي تدفعني إلى البحث عن حلول للجَسْر (تحافظ على إنصاف أساسيّ) للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني وللتوتّر الداخليّ في إسرائيل.[2]
خلاصة الأمر، لدينا – نحن العرب واليهود أبناء هذه البلاد وهذه الدولة – أمور هامة لطرحها باسم الإنسانية. وآمل أن يجد عدالة وآخرون، من الجمهوريْن، القوّة لطرحها.