بمناسبة حلول يوم الأسير الفلسطيني، الواقع يوم 17 نيسان، أجرت المركزة الاعلامية لعدالة، أمل زيادة، مقابلة مع ألأسيرة السياسية المحررة أريج شحبري، إبنة الناصرة.
في الثامن عشر من نيسان 2002، عند الثانية قبيل الفجر، ومع انتهاء احتفالات يوم الاستقلال في إسرائيل تحديدًا، جاءت إلى بيت أريج شحبري في الناصرة قوّات بوليسية كبيرة. كانت أريج، طالبة الحاسوب، في الثانية والعشرين من عمرها حينئذٍ، آخِر من استيقظ على الضجّة وعلى صوت ذلك الذي بدا ضابطًا لعشرات عناصر الشرطة الذين سدّوا بهو المدخل. طلب الضابط من والدها وشقيقها كشف بطاقتي هويّتهما، لكن ما إن لاحظ وجود أريج حتى تركهما وتوجّه إليها طالبًا منها إحضار بطاقة هويّتها. أمّا الشابة، التي لم تفهم ما يجري في بيتها، لم يخطر ببالها أن تطرح أيّ سؤال حين عادت وبيدها بطاقة هويّتها. وهنا، طلب الضابط منها أن ترافقه إلى غرفة مجاورة، حيث أبلغها هناك: "أنت قيد الاعتقال". أمّا بخصوص أسباب الاعتقال، كما قال لها، فسيفسّرونها لها بعد أن ترافقه إلى محطّة الشرطة. طلبت منه أن تغيّر ثيابها – كونها كانت ترتدي ثياب النوم في تلك الساعة المتأخّرة – فوافق. وحين كانت ترتدي ثيابها رافقتها بأمر من الضابط شرطيّتان، إحداهما بزيّ رسمي والثانية بلباس مدنيّ، وهي التي كانت أريج مربوطة بها بالقيد المعدني. "لم يوافقوا أن ينزعوا القيد عنّي، حتى حين طلبتُ الذهاب إلى المرحاض. كانت كلتاهما ملتصقتين بي حتى اللحظة التي اقتادوني فيها إلى محطّة الشرطة". حتى ذلك الحين كانت عناصر الشرطة قد أنهت تفتيش الدار، بموجب أمر كان بحوزتهم. وهو تفتيش تميّز، كما قالت، بنبش ورمي محتويات الدار دون غاية ومبرّر.
تتذكر أريج بدقّة تفاصيل ليلة الاعتقال. بوسعها وصف وجوه عناصر الشرطة وما قالوه تفصيليًا. "إنّه أمر يستحيل نسيانه. إنها تجربة استثنائية ومميّزة إلى درجة أنّه لا يمكن نسيانها". تمّ جلب أريج إلى محطّة الشرطة في الناصرة، حيث اضطرّت للانتظار ساعات حتى أبلغوها بأنّهم سيقتادونها إلى الجلمة، حيث ستلتقي مع عنصر من "الشاباك" يُدعى الياس، "سيشرح لك الياس كلّ شيء"، قيل لها.
أريج تعرّف التحقيقات التي استمرّت نحو شهر كمحادثات، وتضمّنت نقاشات حول مسائل سياسيّة ومسائل عامة. "لقد أرادوا معرفة كلّ شيء. لم يجبروني على أن أروي لهم شيئًا، لكنهم كانوا يطلبون منّي في كلّ مرّة أن أتذكّر تفاصيل لم أروِها. حين سألتهم أيّ التفاصيل هي المقصودة لم يجيبوني، بل أرسلوني إلى الزنزانة مجدّدًا كي أتذكّر". لم يتمّ تعذيبها ولا إذلالها. بنظرة إلى الوراء، تشير اليوم، يمكن النظر إليها كمحظوظة، مقابل المعاملة المهينة التي كانت من نصيب قسم من المعتقلات اللاتي التقتهنّ في السجن.
في ليلة اعتقال شحبري، تمّ اعتقال صديق طفولتها وابن الجيران. وقد التقته أريج في الليلة نفسها حين تمّ اقتيادها إلى المعتقل. ميّزته عن بُعد هو وعناصر الشرطة الذين اقتادوه إلى غرفة التحقيق. حتى تلك اللحظة لم يكن بوسعها أن تخمّن سبب الاعتقال، ولكن حين رأته بدأت تفكّر بالفرضيّات الممكنة لسبب الاعتقال.
"حتى ذلك الحين لم أعرف بالمرّة سبب الاعتقال. لم يخطر ببالي أيّ سبب، ربّما بسبب صدمة الاعتقال الأوليّة. ولكن حين رأيت من بعيد صديقي ، بدأت أربط ذلك بعدد من الأمور المشتركة بيننا، ومنها حقيقة أن كلينا كنّا نعرف شابًا من جنين. لم أتخيّل، بعد تقديم لائحة اتهام ضدّي، أنّ الحديث هو عن بنود اتهام كثيرة إلى هذا الحدّ وخرقاء إلى هذا الحد".
اشتملت لائحة الاتهام التي قُدّمت ضدّ شحبري على 11 بندًا، قرار بالخيانة، محاولة دعم منظّمة إرهاب، مخالفات سلاح بشكل غير قانوني، والتآمر على ارتكاب جريمة. جزء من هذه البنود شُطب من لائحة الاتهام في صفقة ادّعاء، لكن تمّ استبدالها ببنود أخرى. هكذا استُبدل بند الاتهام الذي نسب إليها تخطيط عملية بالرغبة في التخطيط لعمليّة. شحبري تُنكر جميع الاتهامات. وهي تقول إنّها وافقت على صفقة الادّعاء لأنّه لم يكن أمامها أيّ مفرّ. من جهتها، الاتهام المسمّى "إتصال بوكيل أجنبي"، عارٍ عن الصحة. "حقيقة أنّي تعرّفت على شاب من جنين، شخص ينتمي لشعبي، لا تجعله وكيلاً أجنبيًا. إنّه أجنبيّ من جهة الدولة التي جعلتنا مقطوعين الواحد عن الآخر، لكنّ الاتصال الذي أقمته معه لا يعتبر أخلاقيا مخالفة ". إنّها لا تأسف على علاقاتها مع الشّاب من جنين بل تقول إنّها فخورة بها.
خلال المحكمة التي استمرّت نحو ستّة أشهر، أيقنت شحبري أنّ بعض ما قالته في التحقيق، سواء بشكل عابر أو في سياقات محدّدة، تمّ تشويهه باتجاه سياقات تدينها واستُخدم ضدها. على سبيل المثال، في إحدى الجلسات أشارت أمام القاضي الى أنها تشعر بالاضطهاد في الدولة لكونها عربية. وعلى الفور لوّح ممثّل الدولة بما كانت قالته، حسب الزعم، أمام المحقّقين والذي يُشتمّ منه أنّ المواطنين العرب ينالون حقوقهم كافة وأنّ عليهم الخدمة في الجيش. "لقد صُدمت"، كما تروي، "لسماع أني قادرة على قول جملة كهذه، هذا مستحيل. لكن ممثل الدولة أصرّ على أن هذا ما قلته. فور انتهاء الجلسة في المحكمة، حين عُدت إلى زنزانة الاعتقال، تذكّرت أنّني سُئلت في أحد التحقيقات عن رأيي في الخدمة العسكرية. أصلاً فمعظم التحقيقات كانت أشبه بنقاش على الآراء. وبدافع التهكّم، وبعد أن أنهكني الحديث الفارغ، قلت: "بالطبع إنّ المواطنين العرب يتمتّعون بجميع الحقوق ومن الطبيعي أن يذهبوا للخدمة في الجيش". لقد أثار غضبي قيام النيابة باستعمال أقوالي بشكل غير لائق، والتي يتّضح من سياقها أنّها قيلت على سبيل التهكّم. وعلى الفور تحدّثت مع محاميّ وأرسلنا توضيحًا للمحكمة". ولكن هذا التوضيح لم يغيّر، برأيها، توجّه القاضي نحوها: "طوال مدّة المحكمة جعلـَني القاضي اشعر بأنّني قمت بنكران الجميل، وبأنّي شخص لم يعرف تقدير ما قامت به الدولة لأجلي. إنّه لم يكن لطيفًا معي بالمرّة".
حُكمت على شحبري عقوبة بالسجن لمدّة 5 سنوات. حتى اليوم لا تزال على قناعة بأنّه حين تمّت تلاوة قرار الحكم سمعت أنه حُكم عليها بالسجن 15 شهرًا فقط. حينذاك ابتسمت وتنفّست الصّعداء، "بعد عدّة أشهر سأكون طليقة"، قالت في نفسها، ولم تفهم لماذا ظلّ جميع أقربائها في القاعة متجهّمي الوجوه. يبدو أنّ الشرطي الذي رافقها بعد خروجها من قاعة المحكمة فهم أنّها لا تعي عمّا يدور الحديث بالضبط، "لقد حُكم عليك بالسجن 5 سنوات، هل تفهمين؟"، قال لها. وظلّت في حالة من الذهول.
قضت أريج حتى إصدار قرار الحكم نحو ستة أشهر في سجن النساء "نفي ترتسا". سُجنت مع سجينات سياسيات أخريات، واللواتي تصنفن على يد إسرائيل گ "أسيرات أمنيات"، بمعزل عن السجينات الجنائيات. في البداية كان في القسم 12 سجينة، لكن مع انتهاء فترة العقوبة، وصل العدد إلى ما يزيد عن مئة. أولى ليالي الاعتقال في "نفي ترتسا" قضتها مع امرأة أخرى في زنزانة عزل، أشبه بمحطة لليلة قبل ضمّهما الى بقية السجينات. في زنزانة مجاورة قبعت سجينة جنائية اهتاجت وأضرمت النار عند منتصف الليل في فرشة داخل زنزانتها. وعلى الفور نشب حريق وسارعت السجّانات إلى إخلائها. أمّا هما فقد تمّ إبقاؤهما حتى مجيء ضابط، لأنّ الأنظمة كانت تشترط إخراجهما من الزنزانة بحضور سجّان بدرجة ضابط فقط. "كان من الممكن أن نموت من الدخان"، تقول أريج، "وقد وقعت حادثة مشابهة بعد ذلك بسنوات، حين نشب حريق في إحدى الزنازين خلال وضعي في العزل، وفي حينه أخلوا، أيضًا، جميع المعتقلات سوى السياسيات. لقد كان الحريق بجوارنا فعلاً، لكن لم يتمّ إخلاؤنا سوى بعد فترة، حين حضر ضابط إلى المكان".
كان توجّه سلطات السّجن نحو السجينات السياسيات مختلفًا عنه نحو السجينات الجنائيّات. وكانت الفروق واضحة خصوصًا في الأيّام التي وقعت فيها أحداث سياسيّة جدّية. تقول: "حين كانت تقع عمليّة، مثلاً، كان من الممكن تحسّس التوتّر والغضب في وجوه السجّانات. فقد كانت مشاهدة نشرات الأخبار ومتابعة الأحداث اليومية، لدينا، مكثّفة جدًا، وكنا نعي ما يحدث في الخارج. وكانت السجّانات يفسّرن كلّ فعل كاستفزاز وكانت ردود أفعالهنّ تتميّز بالفظاظة، بالعصبية وبالصراخ. حين توفّي أبو عمار (ياسر عرفات) ساد جوّ من الحداد وكنّا نلازم التلفزيون. كل من رفعت صوتها تعرضت للعقاب. كان يمكن للعقاب أن يتراوح بين العزل، قطع الكهرباء أو إقفال الكانتينا التي اعتدنا شراء الطعام وبقية اللوازم منها".
ولكن، كما تقول شحبري، كانت السجينات السياسيات، منظّمات ولديهنّ القوّة، بحيث أنّه حتى لو تمّ تقييد حقوقهنّ، ظلّ من الصعب فرض أمور عليهنّ من دون أن يكافحن من اجل حقّهن. في عدد من الحالات التي تمّت معاقبتهنّ فيها، توجّهن إلى المحكمة العليا بواسطة محامين من تنظيمات تعالج حقوق السجناء. وكما تقول، فإن التوجّهات لم تحقّق تغييرات جوهرية وظلّ الواقع مثلما كان عليه.
وإذا كان هناك فرق في التعامل السجّانات مع السجينات السياسيات قياسًا بتعاملهنّ مع السجينات الجنائيات، فإن مجرّد كونها مواطنة دولة إسرائيل أيضًا، هو أمر قد ميّزها هي وسجينات سياسيات أخريات مواطنات الدولة عن سائر السجينات السياسيات. لقد كانت هناك فروق، وهي سلبية بالأساس. "بحكم أنّنا كنا ضالعات في فعل لا يروق لدولة إسرائيل، فقد اعتُبرنا بنظرها سجينات أقدمنَ على فعل أسوأ من السجينات القادمات من المناطق الفلسطينية المحتلة. لقد جرى النظر إلينا كخائنات، كمن حظي بكل شيء وردّ بشكل ناكر للجميل. كان بالإمكان تحسّس ذلك في الحالات التي اشتكينا فيها من انتهاك حقوقنا بالذات. على سبيل المثال، طلبت مرّة أن يسمحوا لي بمواصلة دراستي في الجامعة. وقد ردّ عليّ مفوّض شكاوى السجناء، بشكل عرَضيّ: "لقد سُمح لك قبل أن تفعلي ما فعلتيه بالدراسة، فلماذا أقدمت على ذلك إذًا؟". في مرحلة ما كفّت هي نفسها عن النضال من أجل حقّها في مواصلة الدراسة، لكنها قادت بين أسوار السجن نضالات اخرى كثيرة لأجل حقوق السّجينات.
تروي شحبري أنّ الحياة في السجن تُدار بنظامٍ مثاليّ، قامت السجينات أنفسهنّ بتحديده بدرجة كبيرة. فالسجينات يستيقظنَ في الصّباح الباكر، ينظّفن قسمهنّ، يتبادلنَ الحديث حول المسائل الراهنة، يرتّبنَ وقتهنَّ لدراسة مواضيع في شتّى المجالات ("قسم من السجينات وصلن السجن من غير معرفة القراءة والكتابة، وقد اكتسبن بين أسوار السجن ثقافة لافتة جدًا"، كما تقول شحبري)، ثمّ يقرّرن بشأن خطوات مثل إضراب احتجاجيّ، وعرض قائمة مطالب من سلطات السجن وغيرها. السجينات منظّمات في مجموعات تُعرّف بموجب الانتماء السياسي. توجد قائدة لكلّ مجموعة. تُنتخب القائدة بأغلبية أصوات المجموعة، ويحقّ لها وحدها إجراء اتصال مع سلطات السجن والقرار في مسائل مبدئية. فور وصولها إلى السجن تعرّفت شحبري على قائدة مجموعة، التي سُجنت بفعل ضلوعها في قتل شاب يهودي تعرّفت عليه عبر الإنترنت. بعد فترة قصيرة رسّخت شحبري مكانتها وجمعت حولها مجموعة غير قليلة من النساء اللاتي طلبن أن تترأسهنّ.
لم تكن وظيفة القائدة من جهة شحبري وظيفة سهلة. فوسط تجربة حياة ضئيلة باتت النساء يتوقّعن منها أن تقودهنّ وأن تعرف كيف تمثّل مطالبهنّ في الاتصالات مع سلطات السجن. وهي تقول إنّها حاولت أن تدخل جوّا من الاحترام المتبادل بين النساء، وحاذرت كيلا تُفرض عليهنّ قرارات وآراء، بل طوّرت علاقات صداقة وثيقة مع بعضهنّ.
الصداقة في السجن، أهي أمر ممكن؟
"نعم. شخصيًا كانت لديّ في السجن صديقة عزيزة جدًا، ولا زلت أحافظ على علاقة معها حتى اليوم. الصداقة تقوّي السجينات اللاتي يقضين بمعظمهنّ فترات عقوبة تصل إلى عشرات السنين".
هل تشتاقين إلى السجن؟
"السجن هو فترة كنت أفضّل محوها، ولكن هناك أشخاصًا أشتاق إليهم. كانت في السجن أمور إنسانية لا يمكن معايشتها إلا هناك. مثلاً، ولادة نور، ابن أحدى النساء، التي أطلق سراحها من السجن فور تسريحي، قبل نحو شهرين. نحن كنّا من أعطاه اسمه، وقد أجرينا تصويتًا. إنّ تربية رضيع في السجن ليست بالأمر السّهل، لكنه أدخل جوًّا أسريًّا على قسم السجينات. نحن ربّيناه، جميعًا. تعلم كيف يلفظ ٲسمائنا جميعا، وكان التأثّر كبيرًا. لقد تربّى نور معنا في الزنزانة قرابة سنتين. وحين أخرجته السلطات ساد جوٌّ من الحداد لفترة طويلة.
"ولكن كانت هناك فترات قاسية، أيضًا. أقساها حين كان يتوجّب عليّ أن أروي لإحدى النساء، أنّ زوجها الذي كان مطلوبًا، قُتل بأيدي الجيش. كانت عروسًا جديدة، وقد اعتُقلت في إطار الضغط على زوجها كي يسلم نفسه. لقد أحبّته بشدّة ولم تكفّ عن الحديث عنه. تعرّفنا عليه جميعًا من خلال حكاياتها عنه، وصرنا نحبّه مثلها. كان الخبر قاسيًا جدًا، ولم أعرف كيف أروي لها ذلك وكيف أمنعها من أن تسمع عنه في الأخبار، التي أكثرنا من متابعتها".
منذ أربعة شهور شحبري هي سجينة محرّرة. وهي تتلقّى اليوم دعمًا كاملاً من عائلتها ومن لفيف أصدقائها، الذين حافظوا على علاقة معها ولم يخافوا من كونها سجينة سياسية. مع ذلك، فحقيقة أنّها سُجنت على خلفية أمنية أدّت ببعض أصدقائها ومعارفها إلى الخشية منها وإلى عدم التحدّث معها في شؤون سياسية، لكنّ هذا لا يؤثّر فيها. من الواضح لها أنّ قضية السجناء السياسيين يجب أن تقف على رأس سلّم أولويات الجماهير العربية. منذ إطلاق سراحها، تمّ استدعاؤها إلى عدد من التحقيقات لدى "الشاباك"، لكن هذا لا يؤثّر فيها، فهي تواصل النشاط على عدة مستويات لرفع الوعي حول القضيّة. اليوم، تحوّلت إلى متحدّثة مرغوب فيها في الندوات والنقاشات التي تتناول حقوق السجناء السياسيين، وترجو مستقبلاً أفضل لنفسها، أيضًا.